افتتاحية المرصد

عانت المرأة السورية اضطهادا وتهميشا تاريخيين على مدى ألف عام. خمسمئة منها عقب انهيار الدولة العباسية وخضوع المنطقة لحروب طوائف وقبائل أودت بكل ما كان المجتمع قد أنجزه في ظل دولة-امبراطورية،
تلتها خمسمئة عامة من الاحتلال العثماني السفاح الذي لم يكتف بسلب كل ما تبقى من خيرات البلد، بل عمل بشكل منهجي دؤوب على تدمير تام للمجتمع السوري، وخاصة لفئاته الأضعف: النساء والأطفال، محولا إياه إلى خرابة عامة.

ورغم أن الاحتلال الفرنسي اللاحق عمل ما بوسعه لاستغلال سورية، إلى أن الزمن القصير لعمره، والظروف المختلفة لبدايات القرن الواحد والعشرين، حدت كثيرا من آثاره السلبية على المرأة.

فيما لم تفعل أنظمة الحكم اللاحقة على فعل أي شيء للمرأة السورية على أي صعيد كان. إذ بقيت أكثر من 95 % من النساء السوريات، شأنهن شأن الرجال، يعشن في ظلمات القرون المنحطة دون ماء نظيف ولا كهرباء ولا صحة ولا تعليم ولا شبكات طرق تصلهم بالمدن.

ولم تكن تلك الصور عن "الميني جوب" و"طالبة جامعة" إلا تعبيرات براقة عن "صفوة" المجتمع السوري من جهة، وعن قشور "الحضارة" من جهة أخرى.

 

ومع عقد أواخر الستينيات بدأ الواقع يتحرك قليلا قليلا، بدءا من تشكيل "اتحاد نسائي عربي"، إلى إظهار شأن للمرة في دستور 1973، رغم أن رائدات الحركة النسائية وقتها، خاصة سعاد العبدالله، فشلت في وضع نص في الدستور ينص صراحة على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات.

ولعب الاتحاد النسائي في السبعينيات، المنظمة البعثية الخاصة بالمرأة، إلا جانب جمعية تنظيم الأسرة السورية، دورا هاما في نشر وعي صحي واسع النطاق نسبيا، مترافق مع قدر من الوعي المجتمعي خاصة المتعلق بتنظيم الأسرة وتحديد النسل، هذه العبارة التي أثارت رجال الدين الذين لا يهتمون أصلا بغير "تحبيل" النساء وضمان استهلاكهن حياتهن في تربية "ذكور" العائلة.

مع تدشين سد الفترات ورفع عتلات الكهرباء، بدأت مسيرة جديدة انعكست إيجابا بشدة على المرأة السورية كفئة ضعيفة مهمشة. فسرعان ما وصلت الكهرباء إلى كل بيوت سورية، ترافق وصولها مع بدء توفر المزيد من التكنولوجيا التي تساعد على التخفف من أعباء المنزل التي كانت دائما إحدى أهم وسائل استعباد المرأة تحت مسمى "مملكة المرأة مطبخها".
وترافق ذلك مع تبني النظام السوري لسياسة التعليم والصحة الأفقيتين، أي نوعية متوسطة من الخدمة لجميع الناس. بدلا من نوعية ممتازة محتكرة من قبل "الصفوة".

وسرعان ما انعكس ذلك تصاعدا مضطردا ومتسارعا في تعداد النساء السوريات اللواتي تعلمن حتى مرحلة متوسطة على الاقل، وفي المعاهد والجامعات، وفي المدارس التخصصية (التمريض مثلا)،
ودخلن سوق العمل بقوة محميات بقانون رسمي للعمل منع أي تمييز في الأجور والرواتب بين النساء والرجال، ومنح النساء تمييزات إيجابية بناء على أدوارهن الإنجابية.

إلا أن الثغرة الأساس التي بقيت هي الإبقاء على قوانين عدة موروثة عن مرحلة الاحتلالين العثماني والفرنسي، وفترة الاستقلال الأولى المضطربة، خاصة قوانين الأحوال الشخصية والعقوبات والجنسية، والتي تضمن تمييزا صريحا ضد النساء السوريات وصل إلى حد مكافأة القاتل بذريعة "الشرف" بإطلاق سراحه وتنصيبه "بطلا"، وهي الممارسة التي بقيت مستمرة ومرعية من قبل النظام ومؤسسات الحكومة حتى يومنا هذا، مع بعض التعديلات الإيجابية الطفيفة هنا وهناك.

قانون الأحوال الشخصية يشكل العمود الفقري في هذا الأمر نظرا للتعدد الديني والطائفي في سورية. وهو القانون الذي يحكم حياة كل إنسان من ما قبل الولادة (الجنين) وحتى ما بعد الموت (الإرث).

وبناء على حقيقة أن الموقف من المرأة يشكل أحد الأعمدة الرئيسية لجميع الأديان والطوائف، وتقييد حريتها وحياتها يشكل الضمان الأساس لإنجاب أتابع جدد للدين نفسه والطائفة نفسها، فإن الجذر الأساسي للمواطنة عموما، ولمواطنة النساء، يقبع بشكل اساسي في قانون الأحوال الشخصية. وهو القانون الذي مزق السوريين والسوريات بين مسيحيين ومسلمين ودروز، وبين سنة وشيعة وكاثوليك وأرثوذوكس..
إلا أنه أولا وقبل كل شيء، ضمن السيطرة المطلقة على حياة النساء من خلال هذا التمزيق.

أضيف إلى ذلك غياب مطلق لأي مستوى من مستويات الديمقراطية وحرية الراي والعمل المجتمعي، وكلاهما أديا إلى ضعف شديد في أي عمل مجتمعي مدني لتغيير اتجاهات المجتمع، ولتحقيق تقدم ملموس وعميق على صعيد حقوق المرأة ومواطنتها.

واستكمل غياب الديمقراطية حرية التنظيم بتحالف النظام مع رجال الدين في مختلف الأديان والطوائف، وخاصة بعد حرب الثمانينيات ضد الأخوان المجرمين، مما وسع كثيرا من نطاق سيطرتهم على الحياة اليومية للناس مقابل ولائهم للسلطة، وسمح لهم بالاستفراد بالمجتمع السوري وتعميق التخلف العام الذي ورثناه عن الاحتلال العثماني المنحط، وإضافة لمسات هامة في الاصولية والتطرف، خاصة في احتقار النساء واعتبارهن جاريات جنسيات وقنابل فتنة موقوتة يجب تكريس كل ما يمكن من اجل ضمان السيطرة عليهن بهدف ضمان عدم "إغواءهن" الذكور، وبالتالي ضمان وصول الذكور إلى الجنة! لم يختلف في هذا الأمر رجال الدين المسلمين عن المسيحيين عن اليهود عن الدروز، وهي أربع "أديان" اعترف بها رسميا في سورية بصفتها "طوائف" حسب نص قانون الأحوال الشخصية. وإن اختلف شكل الاستعباد ومظهره ما بين هذه القبيلة من الذكور وتلك.

إلا أن نقلة نوعية بدأت في نحو 2003 في سورية، مع تخفيف قبضة السلطة الأمنية نسبيا، وفتح المجال أمام إعلام خاص، وتأسيس "الهيئة السورية لشؤون الأسرة"، والتوسع في سياسة "غض النظر" عن جمعيات ومنظمات تعمل دون ترخيص في محاور عدة.
وكذلك مع اتجاه واضح للنظام السوري إلى البدء بتأسيس قواعد قانونية ومؤسساتية جديدة، وإن ببطء شديد جعلها تكاد تكون غير مرئية لأحد.

وربما كان إسقاط مشروع قانون الأحوال الشخصية في 2009 الذي تم بعد حملة مكثفة هائلة قام بها مرصد نساء سورية، والذي شكل أشد الأشكال وضوحا عن واقع الأصولية المنحطة في سورية واختراقها النظام حتى مفاصل مهمة فيه،
وكذلك إقرار قانون مكافحة الإتجار بالبشر،
وإجراء تعديلات وإن جزئية على المادة العار في تاريخ سورية، المادة 548 من قانون العقوبات التي شكلت اعلانا صريحا بالسيادة المطلقة للرجال على حياة النساء، وعلى بعض المواد الأخرى،
والمصادقة على بعض الاتفاقيات الدولية،
ربما كان ذلك من أهم مؤشرات التغير البطيء الذي نشير إليه.

وفي هذا المناخ العام من التقدم البطيء، انفجرت الأزمة السورية فجأة، فيما سمي بـ"الربيع العربي" الذي إبرزت تجارب تونس ومصر وليبيا أنه ليس إلا "انتفاضة" الأخوان المجرمين المعادين جذريا للمواطنة وحقوق الإنسان، وخاصة حقوق النساء، ضمن ما يتلاءم مع المشروع الأمريكي-الأوروبي الذي لا يهتم بأي منطقة في العالم إلا بقدر ما تتضمن من ثروات باطنية أو بشرية أو تسويقية لمصالحه الخاصة.

وحملت الأزمة السورية في بداياتها، حين كان عدد ملموس من الشباب والشابات الديمقراطيات يتحركون من أجل الحرية والديمقراطية والمدنية، حملت احتمالات متعددة لتطورها باتجاه ينقل المجتمع السوري على كافة الصعد نقلة نوعية إلى الأمام.

إلا أن الواقع سرعان ما تغير ليتم اغتيال جميع الاحتمالات، وتطوير مسار وحيد هو اتجاه ذلك الحراك إلى الاصولية المنحطة، اخونجية ووهابية وقاعدة، وليبدأ الإرهاب على نطاق واسع بهدف تدمير البلد من جهة، وإحكام السيطرة الأصولية المتحالفة مع المشروع الأمريكي-الأوروبي على مقدرات البلد.

أسباب كثيرة أجهضت جميع الاحتمالات وتركت هذا المسار الوحيد، منها سلوك النظام نفسه، ومنه الخيانة التاريخية لمن سمي ب"المثقفين"، ومنها تكشف ما كان يسمى بـ"المجتمع المدني" عن مستويات من الانحطاط الفكري والوطني منقطعة النظير، ومنها غرق الشباب الديمقراطي في أوهام "الثورة" وإنكار الأصولية والعنف والإرهاب، وتقوقعه على أفكاره الذاتية التي سرعان ما انفصلت كليا عن الواقع لتشكل خادما مباشرا للإرهاب من حيث لم يكن يريد أولئك الشباب.

ولم تساهم المرأة السورية بأي شكل يذكر في هذا الإرهاب واسع النطاق. وبضع أصوات "مثقفة" في أوساط الفنانين والمثقفين، ممن خانوا علانية وصراحة، لا يشكلن أي نسبة تذكر من النساء السوريات.

بالعكس، شكلت هذه "الثورة المنحطة" ضربة قاصمة للنساء السوريات وقضاياهن، خاصة المواطنة، لم تشهد النساء لها مثيلا منذ قرن على الأقل.

فمن جهة شكلت النساء الفئة الأكثر تأثرا بالإرهاب والأصولية والانحطاط. سواء من خلال القتل والاغتصاب المباشر، أو من خلال التهجير وتدمير المنازل والأسر، أو من خلال تحويلهن إلى خادمات جنسيات للإرهابيين في المناطق التي سيطروا عليها مؤقتا، أو من خلال توسيع نطاق الفكر الوهابي الأخونجي المنحط الذي بدأ فورا بإظهار مدى عداوته واحتقاره للمرأة-الإنسان، أو من خلال تدمير البنى التحتية للاقتصاد السوري مما رتب أعباء هائلة إضافية على الأسرة السورية تتحمل النساء آثرها السلبية الأساسية،

ومن جهة أخرى، تم إجبار الكثير من النساء على أن يشكلن "درعا بشريا مدنيا" في كل مكان تمكن الإرهابيون من فعل ذلك فيه. فمع معرفة الإرهابيين أن الجيش السوري لن يقوم بهجوم واسع النطاق ضدهم حين تواجدهم ضمن المدنيين، عزز الإرهابيون اتجاههم لاستخدام المدنيين دروعا بشرية، وكانت النساء والأطفال هم الوسيلة الأسهل في هذا الإطار.

ومن جهة ثالثة، عزز الإرهابيون الطائفية الموجودة أصلا في سورية، وفجروا حدودها "التعايشية" القديمة لتتحول إلى شرخ عميق في المجتمع السوري، شرخ يقوم أصلا على انتهاك حقوق النساء، فالتمييز الأساسي بين دين وآخر، طائفة وأخرى، يقوم بشكل شبه أساسي على "امتلاك النساء" والتحكم بزواجهن وأبناءهن.

ومن جهة رابعة، أعاد الإرهابيون واقع الحركة من أجل المواطنة من المستوى الذي كانت قد وصلت إليه في نهاية العقد الماضي، من حيث طرح مشاريع قوانين جديدة تحل محل القديمة وتستند إلى المواطنة، أعادها من هذا المستوى المتقدم إلى مستوى الدفاع المستميت عن الحقوق التي تم اكتسابها قبل عقود، بل قرون من الزمن، بسبب الهجوم الضاري الهمجي من قبل "الثورة السورية المنحطة" على أسس وجود النساء كإنسانات ومواطنات.

ومن جهة خامسة، شكلت النساء اللواتي هجرهن الإرهاب خارج الأراضي السورية، سوقا مفتوحة للنخاسة تم فيها استغلال النساء السوريات بكل المعاني، بدءا من ما يسمى بـ"الزواج المبكر"، وانتهاء بتحويلهن إلى مافيات الدعارة في أوروبا، وذلك بإشراف وتواطئ مباشر من قبل الأخوان المجرمين أنفسهم، وعواهل ودعاة الوهابية والعثمانية السفاحة، بل وبكل صفاقة ووقاحة.

وإذا كنا نتحدث هنا عن الإرهابيين ونقصد بصفة رئيسية أولئك الذين حملوا السلاح ضد الدولة والوطن باسم "الحرية" فإن هذا المفهوم يتضمن أيضا الكثير من الميليشيات المسلحة التي ارتكبت الإرهاب نفسه، والانتهاك والاحتقار نفسه للنساء ولكن تحت مسمى "الدفاع عن الوطن"!

فيما شكل الجيش السوري حالة مضيئة في ظل هذا الصراع الدامي، إذ لم يكتف بحماية المدنيين عموما، والنساء خصوصا، والامتناع عن خوض الحرب في الحالات التي يثبت استخدام الإرهابيين لهن دروعا مدنية، بل أيضا عمل كل ما في وسعه لضمان تخليص كل شبر من أرض سورية، وبالتالي كل أسرة وامرأة من هذه القطعان المنحطة التي لا ترى في النساء إلى عاهرات خصهم الله بهن مقابل "قيامتهم" عليهن!


هذا هو واقع المرأة السورية في عيدها الأسود الدامي في 2013، واقع يقول بكل وضوح أن المعركة الأساسية من أجل النساء السوريات، من أجل إنسانيتهن، من أجل مواطنتهن، من أجل وجودهن نفسه، هي معركة تمر حكما من باب القضاء على الإرهاب بكل أشكاله، وبضمنه شكله "المدني" الذي جسده بعض تلك النخبة الخائنة ممن سميوا "مثقفين/ات"، فيما هم قاموا علانية وبكل وضوح بخيانة صريحة لوطنهم، وبدعم صريح للإرهاب والأصولية والإجرام باسم "الحرية والثورة".

هي معركة لا يمكن أن تكون إلا مع الدولة ضد مشاريع الخلافة الدينية المنحطة،
هي معركة لا يمكن أن تكون إلا مع الجيش ضد قطعان الإرهاب،
هي معركة لا يمكن أن تكون إلا مع الوطنية ضد الخيانة،
وهي معركة لا يمكن أن تكون إلا ضد الأصولية بكافة مواقعها، مع أو ضد الدولة، بصفتها العدو الأكثر شراسة وهمجية لحقوق المواطنة للنساء السوريات.

لكل ذلك، لن نوجه اليوم تحية إلى النساء السوريات، بل سنوجه لهن التحدي في النهوض من أجل سورية،
فالمعركة ليست فقط معركة سلاح يقوم بها الجيش العربي السوري العظيم من أجل القضاء على الإرهابيين الخونة،
بل هي أيضا معركة كل إنسان في سورية، رجلا كان أو امرأة، وخاصة النساء بصفتهن أهم الضحايا، معركة ضد الأصولية المتردية عباءات الدين، ضد الطائفية بكل أشكالها وتجلياتها، ضد الديكتاتورية والفساد تحت أي مسمى، ضد الخيانة التي تحلم أعلام "الحرية"، ضد الاستغلال الذي يسمي نفسه "واقع الأزمة"..

فكل هذه المعارك هي معارك متكاتفة ومتلازمة من أجل خروج سورية من كبوتها، وخاصة من أجل أن تحمي النساء ما أنجزنه خلال قرن من الزمن، ويفتحن الطريق إلى المستقبل.

فلا خيار في ظل انتصار الإرهاب والأصولية، لأن النساء سيجبرن بكل القوة اللازمة، بدءا من الرجم والذبح وحتى الاعتقال والإغتصاب، سيجبرن على ان يحسدن حتى جاريات القرون الوسطى.


افتتاحية المرصد، بسام القاضي، مدير مرصد نساء سورية، 2013/3/8، تراجع تاريخي في واقع المرأة السورية بعد "الثورة السورية المنحطة"


0
0
0
s2smodern