افتتاحية المرصد

أصيبت الكثيرات والكثيرون بالإحباط بعد قرارين غريبين في سورية من حيث معالجتهما لمشكلتين من أهم المشاكل التي تتعرض لها الأسرة السورية القائمة على التمييز ضد المرأة والطفل قانونيا ومؤسساتيا، والتي تتعرض اليوم لهجمة أصولية متخلفة تهدف إلى تشريع المزيد من العنف والتمييز ضد المرأة والطفل فيها تحت مسميات غريبة عجيبة.

ففي 1/7/2009 صدر المرسوم رقم 37 الذي أكد بشكل لا لبس فيه على موقف الحكومة السورية الصريح ضد المرأة السورية، عندما أعاد تأكيد "حقا" همجيا منحه للذكر بجز أعناق النساء إذا ارتأى ذلك حفاظا على "شرفه" الذي ليس فيه منه شيء. فليس لدى القاتل القصد شرف مهما تجلل بالكلمات وصراخ الأبطال.

وفي هذا المرسوم، لم يجر تجاهل المادة 192 التي يستفيد منها القتلة باسم "الشرف" على نطاق واسع في سورية، والتي نقدر ضحاياها بنحو 200 جريمة سنويا، وأقرت الحكومة السورية بما يقارب الخمسين ضحية سنويا! بل أيضا تم تأكيد المادة العار التي تنص صراحة على حق كل ذكر بقتل أمه أو أخته أو زوجته، بل حتى قريباته من الدرجة الأولى إذا ادعى أنه "ضبطها بالجرم المشهود"! ومن سخريات القدر أن "تطوير" هذا "الحق" جاء بتثبيت أن لا تقل العقوبة عن سنتين في حالة القتل! فإذا لم تمت؟ على العقوبة السلام حتى لو شلت من رأسها إلى قدميها، حتى لو وقعت في غيبوبة أبدية! وإذا ماتت: سنتين؟
هذا مزري بكل معنى الكلمة: المغتصب يعاقب بين 7 و15 سنة، وربما تصل إلى الإعدام (مع تأكيد مناهضتنا لعقوبة الإعدام)! ويعاقب من يقلد خاتما للدولة بما لا يقل عن سبع سنوات أشغال شاقة! بينما القاتل في جريمة الدفاع عن الانحطاط باسم الشرف يحظى برعاية ملفتة من قانون العقوبات السوري فيمكنه أن يتمتع بعقوبة أشهر إذا لم تمت ضحيته، وبسنتين إذا ماتت؟!

وإعادة التسمية هذه للمادة 548 (فالمرسوم 38 لم يفعل في الواقع سوى أن أعاد التسمية)، تؤكد أن ما قلناه منذ أطلقنا الحملة الوطنية المناهضة لجرائم الشرف في أيلول 2005 هو صحيح تماما. فهذه المادة  العار ليست إلا تأكيدا فظا وصريحا لحق همجي لا مكان له في أية عقيدة سامية أو تدعي السمو، والمكان الوحيد لمثل هذه "الحق" هو في مجتمع وصل به الانحطاط حد منح حق القتل للأفراد تحت سطوة غضبهم أو غيرتهم أو حتى ادعائهم الغضب والغيرة! ومن ثم ادعاء أن ذلك إنما هو من "الأخلاق والحفاظ على القيم"!!

وقبل أيام، في 9/9/2009، أعلن رئيس مجلس التعليم العالي في سورية "التكرم بمنح" أبناء المرأة السورية المتزوجة من أجنبي حق التعلم في الجامعات السورية! بل إن هذه المنحة نفسها مقيدة بشروط غريبة مثل أن على السوري ابن السورية هذا أن يثبت أنه أنجز دراسته للمرحلتين الإعدادية والثانوية في المدارس السورية؟! وعلى أمه، السورية أصلا وفصلا، أن تثبت أنها مقيمة في سورية خلال فترة دراسة ابنها (أي 6 سنوات على الأقل)!
عن أي تكريم يتحدثون؟ إنما هو إلا تأكيد للاستمرار بمعاقبة وحرمان المرأة السورية التي تجرأت على أن تحب وتتزوج وتنجب من غير الذكور السوريين! عقاب يجري تغطيته اليوم بالمزيد من الشروط والصعوبات! فهذه الجنسية هي حقهن وليست منة من أحد. لأن المرأة السورية هي مواطنة كاملة المواطنية مثلها مثل الرجل. ويحق لها أن تمنح أبنائها جنسيتها لأنها مواطنة سورية تقوم بكل ما تفرضه عليها مواطنيتها، وتعاقب على أي تقصير منها في أداء واجباتها تجاه مواطنيتها. تدفع ضرائب على دخلها والماء الذي تشربه والطعام الذي تأكله واللباس الذي تلبسه والسيارة التي تشتريها..

المرسوم الأول، رغم أنه شكل انتصارا عبر الاعتراف أن "جرائم الشرف" في سورية ليست حوادث متفرقة، بل هي فعلا ظاهرة أشد بكثير حتى مما اعترفوا به. والقرار الثاني شكل اعترافا صريحا وواضحا أن انتهاك حق المرأة السورية بمنح جنسيتها لأبنائها إذا تزوجت من غير السوري، هو انتهاك حقا. لكنهما يحاولان ذر الرماد في العيون، عبر إجراء ترقيعي جزئي، لا يهدف في الواقع إلا إلى تمييع المطالب الرئيسية في هذين الأمرين، وكسب الوقت عسى ينسى الناس أن هاتين القضيتين تشكلان اعتداء على حق كل مواطن ومواطنة في سورية بحماية صريحة وواضحة من الدولة لحياتهما تحت أي ظرف كان، وحق كل إنسانة في سورية، أن تجد شريك حياتها في أي مكان يراه مناسبا، ومن أية جنسية، دون أن تتعرض للعقاب بسبب ذلك.

الترقيع لا يحل المشاكل. اللعب على الكلمات بخصوص جرائم الشرف لن يردع القتلة بأيديهم، والقتلة بالتحريض، والقتلة بالتأييد الديني أو المجتمعي أو المؤسساتي، ومن ثم القانوني. لن يردعهم سوى عقوبة تلائم جرائمهم. لن يردعهم سوى إلغاء المادة 548 (حتى إن  صار اسمها المرسوم 38)، وحظر تطبيق المادة 192 على أي من جرائم الشرف، بل وإضافة عقوبات شديدة على كل من يحرض على هذه الجريمة، أو يساهم في قبولها، أو يشرعها دينيا أو اجتماعيا.

والضحك على النساء السوريات بادعاء أنهن "منحن" أن يدرس أبناءهن وبناتهن في الجامعات السورية (وبشروط أيضا)، لن يحل مشكلة عشرات آلاف النساء السوريات المتزوجات من غير السوريين، اللواتي لهن الحق المطلق والتام بأن يتمتع أبناؤهن وبناتهن بجنسية أمهاتهن، بل أنه حق لكل طفل سوري ولد لأب أو لأم سورية أن يتمتع بالجنسية السورية دون أي شرط أو تحفظ. وإذا كان لدى الحكومة السورية، أو مشجعي التمييز ضد المرأة السورية في هذا الشأن ذرائع وهمية وحججا مختلقة من مثل حق العودة للفلسطينيين أو مشكلة الأكراد الذين يدون جنسية، فعلى الحكومة السورية أن تجد الحلول المناسبة لهذه المشاكل بعيدا عن الانتقاص من حق المواطنات السوريات. فحقوق المواطنة ليست محلا للمساومة مع هذه الرؤية أو تلك. وليست محلا للعب والترقيع.

لا بديل عن إقرار حق غير منتقص للنساء السوريات بمنح جنسيتهن لأبنائهن، بغض النظر عن جنسية الزوج، ولا بديل عن إلغاء تام للمادة 548 (والمرسوم 37) إلغاء تماما في النص والمضمون، وحظر صريح وواضح على المادة 192، بل وإضافة عقوبات صارمة بحق المحرضين بكافة أشكالهم وألوانهم.


بسام القاضي، افتتاحية نساء سورية، (كفانا ترقيعا.. المشاكل لا تحل بالالتفاف حولها)

خاص: نساء سورية

0
0
0
s2smodern