ثقافة صحية

شاءت الأقدار أن تزور شادية ثلاث مشاف في أقل من ستة أشهر، بدأت رحلتها من مشفى المواساة بدمشق، بعد أن أصيبت بداء (كوشينك) الشهير، بقيت فيه مدّة من الزمن تطوّر خلالها المرض إلى ورم دماغي، حوّلت بسببه إلى مشفى دار الشفاء الخاص، هناك أُجريت لها عملية (رخامة عبر الأنف) فحصلت معها جملة من التطورات المتسارعة، فتمّ تصديرها كمريضة إلى مشفى المجتهد لتقضي نحبها وحيدة في غرفة العناية المشددة.

في المواساة:
إلى الآن لا غرابة فيما سبق، إلا في ظلِّ واقع قائم في المستشفيات العامة والخاصة، حيث تصادفك الكثير من المعطيات الغريبة، توصلك إلى تساؤل: لماذا وكيف توفيت امرأة لا تتجاوز الـ(43) عاماً بيد أمهر الأطباء وفي أفضل المستشفيات؟ كيف يدير القطاع الصحي العام والخاص حالة مريض وصفت على لسان الطبيب المختصّ المشرف بأنها أبسط من أن تصل إلى الموت، كيف تموت شادية في أروقة ثلاث مشافٍ سوريّة، دون تحديد سبب جوهري ومباشر، هل نحتاج إلى هيئة رقابية تتناول حالات الوفيات في المشافي وتدرسها بتأن وشفافية فائقة، إلى متى يستمر المواطن بكبس الملح على الجرح والسكوت تحت عنوان (قضاء وقدر)؟ وإلى متى يبقى الأطباء متمسكين بحجة (خطأ طبي وارد حتى في مشافي أمريكا)؟.

تستحق قصة شادية أن تروى لثلاثة اعتبارات؛ أولها، أنها حادثة تكررت في الآونة الأخيرة، وثانيها، أن ذوي المريضة حاولوا بشتى الوسائل إنقاذ حياتها ونقلها من طبيب إلى آخر ومن مشفى إلى أخرى دون فائدة، وثالثها، لماذا تسجّل كافة الحالات المماثلة في خانة الخطأ الطبي ولا يستطيع أحد إثباته بأي طريقة، لاسيما وأنّ النقابة لا تقوم بدور كاف على ما يبدو، والأطباء فريق واحد حتى لو شكلت لجنة لتقصي الحقائق، ليعلق الملف ويوضع في أرشيف المشفى وانقضى الأمر مع تحسّر ذوي المريض وتباحثهم الواقع بعيداً عن أروقة المشفى ومن وراء كواليس الإعلام.

تفاصيل الرواية - كما يصفها ذوو المريضة شادية - تؤكد أنّ المريضة دخلت إلى مستشفى المواساة قبل نحو ثمانية أشهر من وفاتها في مطلع الشهر الفائت، وخضعت لعلاج مرض (فرط هرمون الكورتيزون) وعاشت أياماً مريرة في مشفى المواساة.

يقول ابنها أيهم: (كان الطبيب يؤكد لنا استقرار حالتها ووجود إمكانية لتخريجها إلى البيت، فتعود في اليوم التالي للانتكاس من جديد وكأننا كنا نتحدث إلى من لا علاقة له بالطب! وهكذا قضينا ليالي بين الخروج من المشفى والعودة إليها).

كثيراً ما اختلفت أراء الأطباء في مشفى المواساة حيال وضع المريضة، فعندما يؤكد طبيب استقرار الحالة يخالفه آخر بوجوب نقلها إلى مشفى خاص للعناية الفائقة واختلفت الآراء حول حالة تشهد تطوراً مخيفاً فقدت السيطرة عليه.

وفعلاً أنصت الأهل للتحذيرات، ونقلوا شادية (مدرّسة اللغة ذات الأربعين عاماً ونيّف) إلى مشفى دار الشفاء الخاص، وبدل أن يتضاعف مؤشر الصحة والعافية مثل مؤشر الفاتورة، كان ينحدر نحو انخفاض، وتطوّر المرض إلى ورم دماغي، فنصح الطبيب هناك بإجراء عملية عاجلة وفورية، عملية كتب لها النجاح مدّة أسبوع واحد، يقول الدكتور حسن قطرميز رئيس قسم الجراحة العصبية في مشفى دار الشفاء: (حوّلت المريضة لنا من مشفى آخر وهي مصابة بورم دماغي تطلب عملية «رخامة عبر الأنف» وأجريت لها بنجاح وذهبت إلى منزلها وبعد أقل من أسبوع اتصلت المريضة تشكو سيلان سائل النخاع الشوكي عبر الأنف، فعادت المريضة وأجريت لها عملية أخرى بمساعدة الدكتور رياض المنيّر وعلي كيوان وهي سدّ نزيف السائل ونجحت العملية وبقيت المريضة في غرفة العناية المشددة مدة ثمانية أيام. نقلت بعدها بناءً على طلب الأهل إلى مشفى عام).

في حين ينفي الأهل حدوث تفاقم في الورم قبل الخطأ الحاصل في وقف السائل والفشل كان سيد الموقف في أكثر من مرة، يعزوه البعض في إدارة المستشفى إلى استخدام مادة فاسدة أدت إلى مفعول عكسي.

عانت شادية من نزيف في السائل وصل حدّ الاختناق، فارتأت إدارة مشفى دار الشفاء نقلها إلى (المجتهد) والسؤال: لماذا لم يتمكن الأطباء في المشفى رصد حالة المريضة جيداً وتحديد درجة تحملها لثلاث عمليات متتالية خلال فترة وجيزة؟ واختلف الفريق الطبي حيالها.

يقول هيثم من ذوي المريضة (أخبرونا في المشفى بأنه يجب وقف نزيف السائل بإجراء عملية أخرى تصل نسبة نجاحها إلى «20 %» في حين أصابت المريضة الكثير من الاختلاطات، وكان عليهم أن يقولوا لنا ذلك منذ البداية لا أن يستعجلوا العملية ليضعوا لها «منفسة» خاصة دون ضرورة لذلك).

في حين يرى الدكتور قطرميز (مشرف العملية) أنّ الأهل كانوا على علم بخطورة العملية ومدى نسب نجاحها: (قلنا للأهل ووافقونا رأينا أن عملية الرخامة عبر الأنف تحتمل أكثر من خطأ وقد تحدث اختلاطات لا نتمكن من السيطرة عليها).

الغريب في قصة شادية أنها توفيت دون معرفة السبب في ذلك بما فيهم الأهل، فاليوم الذي تصل فيه درجة النجاح ومؤشر التعافي إلى النصف كانت تتعرض لتراجع غير متوقع عجز عن تحديد سببه المباشر طاقم ثلاث مشاف متقدمة علمياً وتقنياً والتي تجرى فيها أرقى أنواع العمليات وتنجح بسلام على حدّ قول الدكتور ياسر الرفاعي من قسم الجراحة العصبية في مشفى دمشق: (كل يوم نجري عشرات العمليات المماثلة وتنجح في غالبيتها، الآن نتحدث عن زرع شرايين وأنسجة وليس فقط ورم دماغي، إنه من أسهل العمليات).

في اليوم الذي وصلت فيه حالة شادية إلى درجة من التردّي، نقلت إلى مشفى عام (المجتهد) وهنا تختلف وجهات النظر لنفقد حلقة مهمة لا نعرف ما هي وأين نجدها، فأهل المريضة نقلوها إلى مشفى عام بناءً على رغبة الطبيب المختص (قطرميز) الذي نصح الأهل بعد تفاقم حالة المريضة ووضعها في غرفة العناية (تكلف الآلاف لليلة الواحدة) بضرورة نقلها إلى المشفى العام لأنه بات اليوم يقدّم خدمات جليلة ولا يستهان بها ويعمل فيه مجموعة من أمهر الأطباء، وبالتالي لا فارق كبير بين المشفيين، على اعتبار أن المريضة ستبقى مدة طويلة في العناية المشددة، ويعجز الأهل الآن عن استيعابها في مشفى خاص.

علماً أنهم (الأهل) دفعوا خلال تواجدهم في دار الشفاء على مدار عشرة أيام ما يفوق (200) ألف ليرة سوريّة ورغم أن الدكتور قطرميز رفض تقاضي مبالغ الأدوية وأجرة العملية الثانية.

هذه وجهة نظر الأهل قبل أن يتمّ نقل المريضة إلى المجتهد، في حين يقول الدكتور قطرميز إنه لم يفعل ذلك على الإطلاق وأنه أخبر الأهل بخطورة حالة شادية والتي تستدعي أن تمكث تحت مراقبة صارمة وشديدة ومستمرة وأنه نقلها إلى مشفى عام لأنّ ذويها رغبوا بذلك: (أخبرونا بعدم قدرتهم على تحمل التكاليف في دار الشفاء، وأنّ النتيجة واحدة هنا وهناك وطلبوا الحديث إلى إدارة مشفى دمشق للموافقة على قبولها).

نقطة تبدو غامضة ولم نحدد بعد وضوحها، رغم سؤالنا المتكرر إدارة مشفى دار الشفاء لكن لم نحصل إلا على الإجابة السابقة من منفذ العملية الدكتور قطرميز، ولدى سؤال إدارة المجتهد سمعنا الجواب من رئيس قسم الجراحة العصبية الدكتور هيثم جامع: (نحن عادة نستقبل المرضى من مشاف خاصة بعد أن تكون إدارة المشفى الخاص أو طبيبها قد فقد الأمل من المريض ولا يريد أن تُسجل حالة وفاة في مشفى خاصة وتُحسب عليهم، هم يعتقدون أنّ المشفى العام يتحمل في غرفه الكثير مما هبّ ودبّ!).

يعود الدكتور الرفاعي ليستدرك: (لكن المشفى الخاص أو العام يمكنه تحديد ما إذا كانت الوفاة نتيجة خطأ طبي، ببساطة لا أحد يهتم، المريض يريد سلته بلا عنب والطبيب لا يتكلم على أخيه الطبيب والمشفى تحرص على سمعتها بلملمة الموضوع دون ضجة).

خطأ طبي أم اختلاط أم ماذا؟
وهذه مسألة أخرى يجب الوقوف عندها تتلخص بمصطلح الخطأ الطبي، ففي كل دول العالم يسمح القانون بنسبة معينة لوقوع الأخطاء الطبية أثناء العمليات الجراحية، وتنقسم حينها الأخطاء إلى أخطاء تحليلية وأخرى سريرية، ولدى حدوث خطأ طبي ارتكبه طبيب ما تشكّل لجنة لدراسة هذا الخطأ ووفقاً للقانون يخضع الطبيب للمساءلة تلافياً لوقوع أخطاء مماثلة في المرات القادمة، وهكذا يكون الطبيب قد استفاد والطاقم الطبي في المشفى تفادى الوقوع في الخطأ مرة ثانية، هذا ما يخبرنا به طبيب أتى لتوه من أمريكا بعد عمل هناك دام عشر سنوات، أما في سوريا يحدث العكس تماماً تقع مئات الأخطاء الطبية القاتلة دون أن يحاسب أحد مهما كانت صفته، وليست المساءلة القانونية ما نفتقدها حالياً، إنما نحتاج الآن إلى تنفيذ أبسط حقوق المريض (إن وجدت طبعاً) نحتاج إلى تحديد سبب الوفاة وآلية الوفاة، نحتاج لتحديد السبب هل هو خطأ طبي أم اختلاط يحصل في أرقى الدول ويقع في خانة الطبيعي؟ ففي مشافينا يحدث ما تقشعر له الأبدان، ربما يتوفى المريض في غرف العناية المشددة ولا يتكلف الأمر سوى إعداد تقرير وفاة يتجاهله الأهل تحت وطأة الإجراءات الروتينية والإدارية ولا يسأل عن أي معلومة تزّج فيه، ولا يهمهم من يعّد التقرير وكيف؟ كما حدث مع أهل شادية الذين لم يحصلوا على تقرير وفاة إلا بعد مرور عشرين يوماً على الوفاة، ولدى السؤال عنه أجابهم مكتب القبول في مشفى المجتهد: (يجب الحصول على تكليف رسمي من دائرة الطبّ الشرعي والمراجعة بعد أسبوع) وهو إن دلّ على شيء يدل على الاستخفاف بحياة المريض وحقوقه فلو كانت إدارة المشفى حريصة على الأمر لقامت بوضع الأهل بصورة الحالة منذ أول يوم دخلت فيها العناية المشددة وأرفقت الحالة بوثائق طبية تبين حالتها قبل دخولها وأثناء دخولها ويوم خروجها، لا أن تترك الأبواب مفتوحة على كافة الاحتمالات، وأقول احتمالات لأنّ ما حدث الآن هو التالي:

ينفي الدكتور حسن قطرميز رئيس قسم الجراحة العصبية في مستشفى دار الشفاء حدوث أي خطأ طبي في العملية بشقيها الأول والثاني، وأنّ تقييمه لما حدث هو: (أصيبت المريضة باختلاط معروف وشائع ناتج عن عملية الرخامة عبر الأنف، ولا يمكن وقوع خطأ فالعملية تمتّ على أتمّ وجه).

في حين يبيّن الدكتور علي هيثم جامع رئيس قسم الجراحة العصبية في مشفى دمشق: (جاءتنا المريضة من مشفى خاص مصابة بالتهاب سحايا حاد بقيت عشرة أيام في العناية المشددة).

وللأهل رأي آخر، وسؤال آخر: (لطالما حددّ الكادر الطبي بمشفى المجتهد أنّ المريضة لا أمل منها لماذا أصرّوا على إجراء عملية رابعة وهي فتح تنفسّ عبر الرغامى بعد أن أعلموهم الأطباء في دار الشفاء حالة المريض بدقة، هل يجربوّن خبراتهم فينا).

حوادث:
توفيت امرأة قبل نحو أسبوعين ووجدت مرمية في مرحاض أحد المشافي وبعد مرور خمسة عشر يوماً على الوفاة وسؤال الإدارة عن السبب: (لم نحدد بعد إذا كانت الوفاة إثر نوبة قلبية أم تحسس من إبرة خفض الدم أم ماذا؟).

توفي إبراهيم بطيخة بعد إجراء عملية له في مشفى آخر وأثناء إعداد تقرير التخريج من المشفى ونجاح العملية وتأكيدات مستمرة من الطبيب بعدم حدوث أي اختلاط، توفي ابراهيم بعد أقل من ساعتين على خروجه، ولم تكلف الإدارة نفسها محاولة تشخيص الأسباب ومعرفة الحيثيات لتسجل الوفاة لسبب مجهول أو تحت مسمى (اختلاط شائع) وهو بدوره مصطلح فضفاض اتسع في الآونة الأخيرة.

يقول مسؤول في وزارة الصحة (من النادر أن تصلنا تقارير تبين أسباب وقوع حالات الوفاة، ويجب دراسة نظام أو آلية تدرس فيها مدى خطورة الأخطاء الطبية، اليوم نعرف أنّ إنتان الحنجرة أحد اختلاطات ورم النخامة لكن هل كلّ العمليات معرضة لذلك، وتأتي المضادات الحيوية المستخدمة هي الأساس بالأمس مثلاً أصيب أحدهم بصدمة جرثومية بعد ساعات معدودة على إجراء عملية له وتوفي دون تحديد السبب علماً أنّ عمليات نوعية كبيرة تجرى في مشافينا)؟

حقوق غير مراعاة:
من حقّ المجتمع والناس أن يعرفوا سبب وفاة ذويهم وأبنائهم وأقاربهم، من حقّ الطبيب المقيم والمتدرب أن يتعلم ما هو الخطأ الطبي وما الاختلاط، كما من الواجب على إدارة المشفى الخاص قبل تصدير مريضها إلى مشفى عام أن تحدد حالته بدقة كي لا نشهد غرف عناية مشددة تحوي جثثاً ماتت سريرياًً وينتظر الأهل قرار وضعها بالبراد، وحتماً ليس براد المشفى الخاص الذي دفعوا قبل الوصول إليه ما فوقهم وما تحتهم، بل براد المشفى العام القارص جداً والذي لا يرحم أحداً.


شذا المداد، (تسجل ضد مجهول دائماً... الأخطاء الطبية: ومازالت تزهن الأرواح...!؟)

عن مجلة "أبيض وأسود"، (3/2010)

0
0
0
s2smodern