افتتاحية المرصد

افتتاحية مرصد نساء سورية

أينما كان العنف السياسي، وأيا كانت أغراضه، فهو أحد أهم عوامل تصاعد العنف ضد النساء. فالعنف السياسي هو عنف "ذكوري" دائما، قيمه قيم تمجيد الذكورة، ومستنده هو تمجيد العنف.

إلا أن الإرهاب  حصريا، أي العنف المسلح الذي يعمل على قتل المدنيين وترويعهم ودفعهم إلى اتخاذ مواقف نتيجة لهذا الترويع، هو الأشد خطرا على النساء في أي مكان من العالم.
فهو، بالإضافة إلى الترويع، يعتمد الأساليب اللاأخلاقية في الحروب والصراعات، وينسف جميع قيم ومبادئ تنظيم الصراع التي تمكنت البشرية من الوصول إليها عبر تاريخها الطويل الحافل بالعنف بكافة مستوياته وأهدافه.

أما الإرهاب في سورية، فلا يكتفي بذلك. إنما هو قد أعلن منذ وقت طويل برنامجا واضحا وصريحا للمستقبل الذي يريده لوطننا. وهذا البرنامج، والممارسات التي تمت ترجمتها على الأرض خلال سنة ونصف من اندلاع الإرهاب، تقول بكل صراحة أن إعادة النساء السوريات إلى حقبة الانحطاط العثماني، وتدمير المكتسبات التي حققتها عبر قرن من الزمن هي أحد أهم أهدافه العاجلة.

 

فالهدف المعلن الواضح اليوم هو الدولة الدينية، بل أغلب قوى الإرهاب في سورية تنادي علنا بـ"الخلافة الإسلامية"!

والدولة الدينية بشكل عام، وأينما كانت، وأيا كان الدين الذي تعتنقه، هي دولة عدوة للنساء، لأنها ترفض اعتبار النساء والرجال متساويين في جميع الحقوق والواجبات، وهو المعيار الاساسي للمواطنة.

إلا أن الإرهاب السوري لا يكتفي بوضع تلك الدولة الدينية هدفا له، بل يعلن دون مواربة تبنيه للمفاهيم المنحطة ضد النساء، وعمله على تكريس تلك المفاهيم كواقع دستوري وقانوني وممارساتي في سورية.

فالقاعدة والوهابية والأخوان المسلمين، وعموم الإرهابيين، أعلنوا دائما وبوضوح موقفهم من النساء وحقوقهن. ولا نحتاج إلى برهان حول القاعدة والوهابية، إلا أن الأخوان المسلمين، ونتيجة نفاقهم التاريخي، تمكنوا من إتقان اللعب بالكلمات، فقدموا بعضا من أنفسهم على أنهم مدنيون يحترمون المواطنة. بينما الحقيقة هي عكس ذلك تماما. فهم يرفضون حتى اليوم، بالرغم من كل نفاقهم الإعلامي، نشر إعلان بسيط واضح ينص على أن النساء والرجال متساوون في كل الحقوق والواجبات دون استثناء، بما في ذلك تولي جميع المناصب العامة، وأن كل نص أو اجتهاد أو تبرير مخالف لنص وروح هذا الإعلان مرفوض من قبلهم.
بل هم يرواغون بما يسمونه "قيم العائلة الإسلامية"، والتي تعني بوضوح سيطرة الرجال على النساء، ومنح الامتيازات للذكر المسلم على كل من عداه، وإلحاق الأطفال كليا بإرادة آبائهم حصرا.
وكلنا في هذا المرصد نذكر جيدا الهجوم الشديد الذي قام به ممثلهم "زهير سالم" على الدولة السورية في 2009 إبان طرح المشروع الطالباني للأحوال الشخصية، إذا اعتبر سالم وقتها أن ذلك المشروع نفسه، بالرغم من انحطاطه الصريح وانتمائه إلى الفكر الطالباني العنصري والمعادي جذريا للنساء والأطفال، هو مشروع يحابي المطالب الأمريكية لتفتيت المجتمع السوري! (لقراءة المقالة، انقر/ي هنا..
)

إلا أن الأهم هو الواقع الذي يجري منذ سنة ونصف.

فمنذ استولى الإرهابيون على إمكانيات تحول الحراك الأولي الذي كان يمكن له أن يكون ديمقراطيا ومدنيا، وحولوه إلى معركة وجود ضد سورية، بدأ سيل الوقائع يظهر عداء جذريا لحقوق النساء في المواطنة.
وتتجلى هذه الوقائع في إجبار آلاف النساء على "النقاب" الذي هو عنف إجرامي خالص ضد النساء (حتى إن كان هناك بعض النساء ممن "يقتنعن" به)، وفي إلزام النساء أن يبقين في بيوتهن، وفي المناداة العلنية بإخراجهن من العمل بل وحتى الدراسة، وفي اعتبارهن هدفا عسكريا بطريقة "جنسية" عبر اغتصاب كل من يتمكنون منها من "خصومهم"، وفي إعلانهم وجوب تطبيق أكثر مفاهيم الامبراطورية الإسلامية انحطاطا بخصوص الزواج والأسرة..

ولا تشكل الإعلانات عن كتائب إرهابية مسلحة مكونة من النساء، وكلهن منقبات ويحملن راياته القاعدة أو متبعيها من الوهابيين والأخوان المسلمين، إلا دلالة أخرى على حقيقة برنامجهم المعادي للنساء كإنسانات أولا وكمواطنات ثانيا.

كما إن اللغة التي استخدمها الإرهابيون (وبضمنهم "المثقفون والمثقفات" ممن هم يمارسون الإرهاب والقتل عبر خدمتهم الإرهابيين وعبر تصوير ما يجري في سورية على أنه "ثورة مدنية"، عبر محاولة تلميع صورة الإرهابيين بوصفهم بـ"ثوار"..) هي لغة تعتمد بشكل كلي على الحط من قدر المرأة باستخدام المصطلحات التاريخية التي تدل بوضوح على ذلك مثل "سبايا" و"حرائر"، وكلتاهما كلمتان صحيحتان في اللغة العربية، إلا أنهما أيضا مصطلحان يتضمنان الإشارة إلى المرأة بصفتها كائنا منحطا قابل للاستيلاء عليه بصفته غنيمة حرب.

واستمر هذا السياق بالتصاعد والانكشاف إلى الدرجة التي باتت فيها أعلام القاعدة، ومشاريع الوهابية، مطروحة علنا في كل مكان يتواجد فيه الإرهابيون، على أرض الواقع أو في العالم الافتراضي.

وما قصص "الحوريات" التي يوعد بها الإرهابيون، ولا الرايات والشعارات التي ترفعها كتائب الإرهابيين بما فيها تلك المسرحيات الإعلامية عن كتائب "نسائية"، إلا انعكاسا لمدى الفكر المنحط الذي يرى فيه هؤلاء النساء السوريات!

ولو أردنا تعداد الدلائل على ذلك لاحتجنا إلى عشرات آلاف الكلمات. فكل مكان من الواقعين الحقيقي والافتراضي يعج بالدلائل على ذلك.

هذا الواقع الذي فرضه الإرهاب الأصولي المجرم في سورية قلب معادلة الدفاع عن حقوق المواطنة للنساء السوريات، من العمل على المزيد من المكتسبات، وهو العمل الذي نشأ المرصد من أجله بداية عام 2005 وصارع الحكومات السورية المتتالية من أجله، وغير في الإعلام، وفي التصورات المجتمعية على نطاق واسع (يذكر مثلا حملة مناهضة جرائم الشرف التي أطلقها المرصد أيلول 2005 واستمر بها حتى تاريخ بدء الإرهاب في سورية، ونجحت بتغيير المادة 548 مرتين باتجاه إيجابي رغم استمرار المرصد برفضها جملة وتفصيلا بصفتها منتهكة لحق الحياة، وحملة إسقاط مشروع الأحوال الشخصي الطالباني الذي واجه فيه المرصد الحكومة السورية كاملة حتى أسقط المشروع نهائيا، وغيرها الكثير..)،
هذا الواقع قلب المعادلة اليوم من العمل على مكتسبات إضافية، إلى أولوية الدفاع عن المكتسبات الموجودة، والمهددة برمتها بسبب البرنامج الأصولي الإرهابي الذي يستهدفها نظريا وعمليا.
إذ إن نجاح هذا الإرهاب وخدمه من حملة القلم في السيطرة على السلطة في سورية يعني، فوريا وتلقائيا، تدمير كل تلك المكتسبات، وإقامة نماذج الإنحطاط الإنساني وفق تصورات الأخوان المسلمين والوهابيين والقاعدة، وجميعها تصورا تقوم على اعتبار النساء حيوانات جنسية خطيرة على الرجل "المؤمن"، وبالتالي فلا بد من تقييدها والسيطرة عليها وضبطها حتى يتمكن "الرجال المؤمنون" من الوصول إلى الجنة!

وهذا الدفاع عن المكتسبات لا يكون بـ"انتقاد أخطاء" الإرهابيين، فما يفعلونه ليست "اخطاء ثورة"، لأن الثورة أصلا غير موجودة في سورية، إنما إرهاب يهدف إلى فرض أصولية مجرمة على سورية. ولأن كل برنامجهم وكل ما يفعلونه هو ممارسة هذا الإرهاب ونشر هذا الإنحطاط باسم الحرية والديمقراطية، بل حتى إن فئات واسعة من هؤلاء الإرهابيين تخلوا حتى عن هذا التضليل، وبدؤوا يعلنون علنا رفضهم مصطلحات الحرية والديمقراطية، وتبنيهم مفاهيم "الخلافة الإسلامية" و"فرض الشريعة الإسلامية" وما إلى ذلك.

بل يكون بخوض المعركة بوضوح إلى جانب الدولة السورية والشعب السوري ضد الإرهابيين وفكرهم، وهذه المعركة تقتضي جعلهم الهدف الأول والأساسي فيها، وكشف برنامجهم وانحطاطهم وتفكيرهم المعادي لحقوق الإنسان عامة، وحقوق المواطنة خاصة، وبالأخص منها حقوق النساء والأطفال.

إن قرار مرصد نساء سورية بالعودة إلى نشاطه وفعاليته، وخوض المعركة ضد الإرهابيين إلى جانب الدولة السورية التي نشأ وتطور في صراع مع نزعتها الذكورية وتمييزها النسبي ضد النساء السوريات، هو قرار ينسجم تماما مع مبادئ عمل المرصد.
فهذا القرار لا يعني انتقاله إلى "العمل السياسي"، إنما هو ينطلق، ويبقى ضمن إطار الدفاع عن حقوق الفئات التي هي محاور عمله منذ نشأته، أي النساء والأطفال والمعوقين والفئات المهمشة.. ضد الخطر الداهم الذي يهدد وجودها المادي إضافة إلى حقوقها المكتسبة،
وجميعها فئات تقف اليوم على مفترق طرق مصيري أمام ما يجري، وتتركز مصلحتها التاريخية في الدفاع عن الدولة، وفي دحر الإرهاب.

إذا، أولوية مرصد نساء سورية اليوم هو مواجهة الإرهاب والإرهابيين وكشف جرائمهم ضد النساء والأطفال والمعوقين، سواء كانت جرائم في المستوى الفكري-النظري، أو في المستوى العملي الواقعي.

وستبقى هذه أولويته المطلقة حتى القضاء على الإرهاب والأصولية المجرمة، وعودة الأمن والسلام لسورية في ظل دولة تحافظ على الحقوق المكتسبة، وتعمل على تطويرها نحو تحقيق المواطنة الكاملة.


بسام القاضي، افتتاحية مرصد نساء سورية، 2012/11/12، (لماذا مواجهة الإرهاب أولوية لدى النساء السوريات؟!)

خاص: مرصد نساء سورية


0
0
0
s2smodern