افتتاحية المرصد

استغلال الأطفال سياسيا ليس أمرا جديدا على الثقافة السورية من كل أطرافها. فالإسلام السياسي والشيوعيين، السوريين القوميين والبعثيين.. جميعهم اعتبروا الأطفال (خاصة المراهقين من عمر 14 إلى عمر 18) الوقود الأساسي والأكثر أهمية في "المعركة" التي يخوضها كل منهم لأهدافه الخاصة.

فجميع القوى السياسية، المعترف بها وغير المعترف بها من قبل النظام السوري، لم تتبنى مبدأ حق الطفل بالحماية من الاستغلال السياسي الذي يعتبر التجييش أحد أهم مظاهره. إنما اعتبر هذا الاستغلال وذاك التجييش "حقا" مشروعا لكل منها، على أساس "بناء المستقبل"!

وبسبب من سيطرة حزب البعث على السلطة في سورية لأكثر من نصف قرن الماضي، ركز الكثير من اهتماما شديدا على الأطفال باتجاه عسكرتهم كجزء أساسي من رؤيته السياسية، عبر منظمات الطلائع والشبيبة (وإدراج التدريب العسكري بكل مظاهره في المدرسة، وهو ما ألغي قبل سنوات قليلة فقط) اللتان شكلتا الآلية الأساسية في تكريس قواعد عسكرة المجتمع في سورية.

واليوم، كان أطفال درعا السبب المباشر في بدء الأحداث في سورية (حين تم اعتقال مجموعة منهم قامت بكتابة شعارات على الجدران مناهضة للنظام السوري). ويوما بعد يوم، مع تطور الأحداث وتحولها إلى صراع مسلح، تم استثمار الأطفال بشكل مكثف كجزء من المعركة التي ذهب ضحيتها الآلاف في سورية، بينهم العشرات من الأطفال الذين فقدوا حياتهم، إضافة إلى الآلاف ممن يعانون اليوم ضغوطا شديدة ناجمة عن فقدانهم الأب أو الأم أو أحد الأخوة، وعشرات الآلاف ممن يعيشون في قلب المناطق التي يسيطر عليها الصراع المسلح، بل يمكن القول مئات الآلاف ممن يشاهدون كل يوم مشاهد العنف والإجرام سواء عبر الفضائيات، أو عبر أحاديث أهاليهم.

هذا الاستثمار لم يتوقف عند إجبار الأطفال (سواء إجبارا ماديا مباشرا، أو إجبارا معنويا عبر التحريض المكثف التجهيلي) على المشاركة "الفعالة" في أشكال التجمع البشري في الشوارع (مسيرات ومظاهرات)، حيث الخطر حقيقي ومرتفع على حياتهم (نتيجة لجوء جميع الأطراف المعنية إلى العنف منذ اللحظات الأولى، وإن كان هذا العنف نفسه قد اشتدت مستوياته تدريجيا ليدخل مستوى الصراع المسلح)، بل تطور ليتم "تسليح" الأطفال أنفسهم واستخدامهم كقوة ضاربة (نذكر أن كل من هو دون 18 سنة هو طفل بالمعايير الدولية ومعايير حقوق الإنسان، ووفق القانون السوري أيضا).

تسليح الأطفال واستخدامهم كجزء من المعركة العسكرية لم يقتصر على طرف من أطراف الصراع دون غيره، وإن كان كل طرف يقدم الأطفال الضحايا الذين فقدوا حياتهم على أنهم "ضحايا عنف الطرف الآخر". فأغلب الأطراف المنخرطة في الجانب المطالب بإسقاط النظام السوري استخدمت الأطفال كوقود إعلامي، حيث جرى دفعهم إلى الشوارع الخطرة وتصويرهم ليتم فورا استخدام الفيديوهات في المعركة الإعلامية التي يقودها، من هذه الأطراف، القنوات المجرمة بكل معنى الكلمة بحق الشعب السوري، خاصة قنوات "الجزيرة" و"العربية" و"الأورينت" اللواتي أسقطن أدنى المعايير الإنسانية (عدا عن المهنية) من حساباتهن، وبدأن في شن حرب شعواء شكل الأطفال أولا (والنساء ثانيا) مادتها الأساسية كلما كان ذلك ممكنا.

ووفق إثباتات كثيرة استخدم هؤلاء الأطفال (ضمنا الأطفال في المرحلة المبكرة من 3 إلى 6 سنوات) كنوع من الدروع البشرية. ففي حالات عدة كان البعض يحمل الطفل على ذراعيه وهو يتقدم في مظاهرة، أو يدفع بهم في الصفوف الأمامية (من عمر 6 إلى عمر 12)، معتقدا أن ذلك سيحميه من العنف المحتمل ممارسته من قبل أجهزة النظام.

وفي الأشهر الأخيرة ظهر شكل جديد من أشكال استغلال الأطفال سياسيا وعسكريا، هو إجبارهم وإجبار أهاليهم على عدم الذهاب إلى بعض المدارس، بذريعة أن هذه "مدارس النظام"، وأن "مدارس الثورة" قاب قوسين أو أدنى. وأن كل ذهاب إلى المدرسة (بل حتى الروضة) هو "خيانة للثورة" تشكل مساهمة في "استمرار النظام". ولا يمكن تفسير هذا الشكل بحال من الأحوال بغير الرغبة الحقيقية بتجهيل الأطفال، وإجبارهم على المشاركة في الحركة التي تجري في الشارع. وهذا الشكل، للأسف، لم يظهر في بلدان أخرى سواء فيما سمي "الربيع العربي" أو غيره، بل ظهر فقط في الدول التي كانت فيها القوى التي تفعل ذلك تتبنى سياسة التجهيل المطلق تحت أية ذربعة كانت (أفغانستان طالبان مثلا، حيث اعتبرت المدارس نفسها هي "كفر" يجب استبداله بمدارس "الإيمان").

ومما هو مثير جدا للانتباه أن بعض من ساهم بشدة في الدفاع عن استغلال الأطفال بهذه الطريقة الإجرامية البشعة، كان ممن عمل بقدر أو بآخر في مجال حقوق الطفل! الأمر الذي يعكس مدى سطحية اعتقاد هؤلاء بالحقوق المدنية أولا، وبحقوق الطفل كأحد أهم مفاهيم الحقوق المدنية ثانيا (فحال حقوق الطفل عمليا، بشكل عام، تشكل أحد أهم المعايير الواقعية لمدى احترام الحقوق المدنية، الأمر الذي يفسر حقيقة أن استغلال الأطفال سياسيا، وخاصة عسكريا، يتصاعد طردا مع غياب الحقوق المدنية في أي بلد). بل إن أحدا من هذه الأطراف كطرف، أو حتى كأشخاص "قياديين" لم يخرج حتى اليوم ليدين هذا الاستخدام المكثف للأطفال! بل عمل الجميع على تبريره واعتباره "حقا" للأطفال من جهة، وتحميل كل المسؤولية للنظام من جهة أخرى، متناسين أن حق الطفل بالحماية بكافة مستوياتها لا يقع على عاتق طرف واحد حين نتحدث عن أي مستوى من مستويات المواجهة المباشرة في الشارع.

إلا أن الأطراف التي انخرطت لتدافع عن النظام لم يكن حالها أقل سوءا بكثير. باستثناء أن واقع الحال الذي جعل هذه الأطراف "تتأخر" في الانخراط في "معارك الشارع"، جعلها لا تظهر بالمستوى نفسه الذي ظهرت فيه الأطراف الأخرى.
فقد عملت هذه الأطراف على تجييش الأطفال ودفعهم إلى "المسيرات"، وعملت على إدماج الأطفال المراهقين (14 - 18 سنة) في المجموعات التي حملت السلاح تحت مبررات "الدفاع عن النفس" (وهو المبرر نفسه الذي استخدمته الأطراف الأخرى، مع تغيير الجهة المقصودة بحماية النفس منها).

الطرف الأهم في هذا الانتهاك واسع النطاق لحق الأطفال بالحماية كان النظام السوري نفسه. لأسباب كثيرة أهمها أنه هو "نظام" الدولة. أي أنه الجهة التي تترتب عليها المسؤولية القانونية والأخلاقية عن أي انتهاك لحقوق الطفل يحدث ضمن نطاق سلطاتها. وهي المسؤولة عن حماية تلك الحقوق من الانتهاك ليس فقط من قبل أجهزتها الخاصة، بل أيضا من أي طرف آخر.

إضافة إلى أنه يتحمل مسؤولية "تاريخية" بسبب من عمله خلال نصف قرن الماضي على تأسيس اعتبار الطفل جزءا من أية معركة سياسية. سواء عبر منظمات "حزب البعث" المسيطر على الدولة، أو عبر تجاهله لاستخدام بعض القوى الإقليمية للأطفال كوقود أساسي في المعركة المستمرة مع إسرائيل وإجرامها بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، والأمر نفسه مع المعركة ضد الاحتلال الأمريكي للعراق.

والواقع أن هذا الطرف، وإن كان لم يزج بالأطفال في أتون الصراع المسلح (وهذا أمر طبيعي نظرا لأنه "نظام دولة" تفرض عليه قوانينه اعتبارات لا يستطيع تجاوزها قبل أن يتحول إلى طرف في حرب أهلية لا يعود فيها النظام موجود أصلا، كما حدث في بعض فترات الحرب الأهلية في لبنان، وفي العراق)، إلا أنه لم يفعل شيئا ليحمي الأطفال من هذا الاستغلال لا من قبل "أعدائه" ولا من قبل "أصدقائه". بل إنه تغاضى عن عنف وصل إلى حالة الإجرام في بعض الحالات مارسته بعض أجهزته تحت ذريعة "مواجهة المسلحين"، أو "مواجهة الطرف الآخر الذي يستخدم الأطفال كمسلحين". كما أن اعتقال الأطفال، منذ اللحظات الأولى للأزمة، لم يأخذ بالحسبان أي من الاعتبارات الإنسانية أو الحقوقية (سواء على أساس الاتفاقيات التي وقعت عليها سورية، أو على أساس القوانين السورية نفسها) في آلية اعتقال الأطفال المتورطين بنزاع مع القانون، أو في شروط اعتقالهم وآليات التحقيق معهم. فقد خضعوا لما خضع له الكبار من عنف وتعذيب، وحبس مع الكبار.

إضافة إلى وسائل إعلام النظام (الرسمية منها، وغير الرسمية كقناتي الدنيا والإخبارية)، لم توفر فرصة لاستخدام الأطفال في المعركة الإعلامية التي أخذت طابعا إجراميا أيضا من قبل هذا الإعلام (وإن كان أقل خطرا بكثير مما هو عليه خطر قنوات الإجرام في الطرف الآخر)، سواء عبر التركيز على الأطفال في "المسيرات المؤيدة"، أو عبر تصوير الأطفال في الطرف الآخر بشكل تحريضي ضدهم رغم كونهم أطفال ضحايا. فالطفل الذي تم الزج به في معركة سياسية- عسكرية هو ضحية بغض النظر عن من يستخدمه، ولأية أهداف، وبأي مستوى.

ومع انتفاء الأمل بأن يتخذ النظام أو معارضته المسلحة أي موقف إيجابي لصالح حماية الأطفال من عنفها الخاص أولا، عبر التوقف عن استخدام الأطفال بأي شكل كان في معاركها السياسية، تترتب المسؤولية اليوم بشكل مباشر على المجتمع المدني السوري، مسؤولية متعددة المستويات. وأول هذه المستويات هو اتخاذ موقف صارم ونهائي ضد كل استخدام للأطفال بأي مستوى كان، بعيدا عن التبريرات الواهية التي يحاول كل طرف استخدامها لتبرير انتهاكه لحق الطفل. سواء كان هذا الاستخدام في اشراكه في مسيرات مؤيدة أو مظاهرات معارضة، في إلباسه ثيابا تحمل صورأشخاص، أو في ربط رأسه بعصابات تحمل شعارات معينة، في إجباره على الصراخ تأييدا للنظام أو في إجباره على الصراخ رفضا للنظام. ففي كل الحالات هو انتهاك صريح لحق الطفل بالحماية من الاستغلال السياسي تزيده وطأة أية محاولة لتبريره.

وثاني هذه المستويات، وهو بات أمر ملح وعاجل، هو البدء الفعلي والعملي بأية مبادرة ممكنة (وكلما زادت وتنوعت المبادرات كلما كان ذلك أفضل بكل المعايير، حاضرا ومستقبلا)، تتجه إلى التعامل مع الأطفال ضحايا العنف أنفسهم (ونذكر بأن الأطفال ضحايا العنف ليسوا فقط من تلقوا العنف مباشرة، بل أيضا كل من أدرج في سياق العنف عبر مشاهدته الإعلام أو وضعه في مستوى التجييش الإعلامي). فهؤلاء الأطفال قد تأثروا عميقا بما احتكوا به، وانعكس هذا التأثر على صحتهم النفسية (وأحيانا الجسدية) بأشكال ومستويات مختلفة. والتأخر في التعامل الجدي والعلمي والمنهجي مع هذه الآثار يهدد بتفاقمها وتطورها إلى أمراض حقيقية، كما يؤكد كل العاملين/ات في مجالات الصحة النفسية للطفل.

وثالثها، وهو مهم جدا اليوم قبل الغد، العمل على نشر الوعي بين جميع الأهالي على اختلاف مواقفهم السياسية، بمدى الخطر البالغ الذي يسببونه لأطفالهم عند السماح لهم (عدا عن دفعهم) بالانخراط في الصراع السياسي (خاصة المسلح). وهو خطر سوف لن تتوقف آثاره على الطفل نفسه، وعلى مستقبله كإنسان ناضج، بل أيضا على محيطه الأسري والاجتماعي أولا، وعلى المجتمع السوري ككل ثانيا.

قد يكون الوقت تأخر قليلا في إطلاق هذه المبادرات، وبالتأكيد فإن هذه المبادرات لا ترضي أطراف الصراع، لا النظام السوري ولا معارضته (خاصة معارضته المجرمة الأصولية التي لا ترى في الطفل، اساسا، إلا مادة لأفكارها وتصوراتها المريضة عن الإنسان-العبد)، فكلهم يعرف جيدا أن الطفل هو "الأداة" الأصلح لزجه في هذا الصراع نظرا لضعف شعوره بالمسؤولية، ولحماسه، ولعدم تمكنه من تقدير الأفعال ونتائجها واتخاذ موقف عقلاني منها. إلا أن هذا التأخر لا يستدعي أبدا المزيد منه. بل يستدعي العمل فورا بكل الإمكانيات المتاحة على أرض الواقع، أخذا بالحسبان الخصائص الخاصة بكل منطقة عمل على حدة. فقد تحتاج المبادرات نفسها إلى أن تكون ديناميكية وخلاقة لتأخذ بالحسبان الفروق بين منطقة عمل لم تشهد، بنفسها، عنفا مسلحا بشكل مباشر، وبين منطقة عمل هي أساسا بؤرة عنف مسلح.

وفي هذا السياق، يتحمل النظام السوري بالتأكيد مسؤولية إعاقة وإجهاض أية مبادرة من هذا النوع مهم كانت ذرائعه في ذلك، باستثناء الحالات التي قد يستخدمها بعض منتهكي حقوق الطفل (من أي طرف كانوا) عبر تجيير مثل هذه المبادرات للتشجيع على المزيد من استغلال الأطفال. وفي هذه الحالات فإن القيام بفضح من يقوم بذلك، وتقديمه للمحاكمة المدنية والعلنية وفق القوانين السورية هو السلوك الأمثل لمواجهتها والحد من تأثيرها.

كذلك تتحمل المنظمات السورية التي تهتم بقضايا الأطفال، خاصة مشروع "مسار" الذي يبدو أنه غرق في "وردته" السريالية، مسؤولية كبيرة تزداد يوما إثر يوم، وهو يتفرج على ما يجري، أو يجد المبرر تلو الآخر لهذا العنف تحت مسميات مختلفة، أو يستخدم العنف نفسه بعد إعادة توجيهه ليخدم "توجهاته" السياسية، تاركا الأطفال الذين باتوا اليوم بأمس الحاجة إلى وقفة صارمة لا تردد فيها لإدانة، بل ومحاسبة كل من يزج بهم في المعركة السياسية- العسكرية التي تحصد المزيد من الأرواح في سورية.

إن حق الحياة هو أهم حق لأي إنسان. فلا إنسان بدونه. فكيف إذا كان هذا "الإنسان" هو كائن ما زال في طور النمو، ولم تتشكل شخصيته بعد؟
ولا يقل عنه أهمية حق حمايته (أي الطفل) من أي تأثير سيء وضار. فكيف إذا كان هذا التأثير هو "زجه" في أتون صراع سياسي- عسكري يحصد الأخضر واليابس؟ ويشوه عميقا نفسية كل الأطفال الذين تم إدراجهم فيه؟ ولا حجة لمن يحاول التملص من مسؤوليته بالقول أن هؤلاء الأطفال هم "كبار يشاركون في صناعة مستقبل بلدهم"! فهذه ليست إلا حجة أقبح من ذنب. لأن حماية الأطفال من أن يتم التلاعب بهم على هذا النحو، هي جزء لا يتجزأ من حماية حياتهم وحقهم بالنمو النفسي والعقلي الصحيح.

الأطفال اليوم ضحايا انتهاكات كرست عبر قرون من استعباد الأطفال واعتبارهم "وسيلة" للكبار، يحاولون أن يحققوا من خلالهم ما عجزوا هم عن تحقيقه، ويهيؤونهم ليكونوا مطية لأفكارهم وتصوراتهم التي غالبا ما تكون مناقضة كليا لمصلحة الأطفال الراهنة، بل ومصلحتهم ككبار مستقبلا. إلا أن هذه المسؤولية التاريخية لا تنفي بحال أن مسؤولية كل منا اليوم، عن ما يجري اليوم من انتهاك بحق الأطفال، هي مسؤولية كاملة لا ينتقص منها أي تبرير.


افتتاحية مرصد نساء سورية، خاص: مرصد نساء سورية،  19/12/2011، (الأطفال أول ضحايا العنف السياسي الدموي في سورية)

0
0
0
s2smodern