افتتاحية المرصد

للأسف، فإن الحكومة السورية ما تزال تثبت يوما تلو الآخر أن عداءها لمواطنة المرأة السورية هو عداء متأصل فيها إلى حد أنها لا تتخيل حتى أن تتحمل مسؤوليتها في حماية حقها الأساسي في الحياة، عدا عن الحقوق الأخرى التي لا يكون المرء، ذكرا كان أو أنثى، مواطنا بدونها!

وبما أن تلطي الحكومة خلف ديباجاتها التي تطلقها هنا وهناك عن المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة وإنجازات المرأة السورية و... قد بات مفضوحا ومكشوفا، فقد لجأت إلى أن تلتف على ذلك بما يشبه الذكاء الذي انطلى، للأسف، على الكثيرين، فقاموا  يهللون لتأكيد الحكومة السورية منح قتلة النساء السوريات مكافأة تتمثل في تخفيف العقوبة على جريمتهم البشعة والهمجية!

فالتعديل الأخير لقانون العقوبات، جاء مفاجأة بكل معنى الكلمة! بعد سنوات طويلة من فضح ما يتضمن هذا القانون من عنف وتمييز ضد المرأة السورية، في جوانب مختلفة، أهمها تشريعه لتنازل الدولة عن حقها الحصري بالقصاص، ومنحه للذكر بتقديم مكافأة تخفيض العقوبة له فيما إذا قتل أيا من النساء في "قبيلته" مدعيا أنه فعل ذلك بدافع "شرفه الجنسي"!

التعديل ثبت بشكل صريح وواضح هذا الانتهاك الفظ والصريح للدستور السوري، وللإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وللاتفاقيات الدولية المختلفة التي صادقت عليها سورية، ولأبسط قيم أية شريعة أو عقيدة تتكنى بالسمو أو بالرقي أو بالإنسانية. فقد ناقض هذا التعديل مطالب الحملة الوطنية المناهضة لجرائم الشرف التي أطلقها مرصد نساء سورية منذ أيلول 2005، والتي أثبتت خلال السنوات الست الماضية أن مئات النساء السوريات يذبحن سنويا على امتداد الوطن، لا فرق بين مثقف وجاهل، بين مدينة وريف، بين متبع دين ومتبع دين آخر!
كما ناقض التوصية الثانية الواضحة تماما والصادرة عن الملتقى الوطني الأول حول جرائم الشرف (10/2008)، والتي نصت بصراحة على "إلغاء المدة 548 من قانون العقوبات"!

فالتعديل هذا لم يفعل سوى أن قلل من المكافأة الممنوحة للقتلة بأن رفع الحد الأدنى للعقوبة إلى 5 سنوات! إلا أنه، من جهة أخرى، ارتكب خرقا قانونيا صريحا، وانتهاكا دستوريا لا يقر صراحة وفداحة حين قال "تكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل"! هذا يشكل إقرارا لا لبس فيه أن العقوبة لن تتجاوز سبع سنين في حال من الأحوال! فما هذا يا حكومة الدستور الذي قال أن الدولة السورية مسؤولة عن حياة الناس؟! ماذا تفعلون هنا؟ أنتم تقولون: تحملونا أيها الأبطال القتلة، نحن مضطرون لمعاقبتكم حرصا على ماء وجهنا الذي هدر بتأييدنا الصريح للعنف والقتل، ولكننا نعدكم أنكم لن تحصلوا على أكثر من 7 سنوات مهما كانت عدد الطعنات في الصدر والظهر، ومهما كان مقدار الدم الذي تشربوه من دماء نسائكم!! هذا ما يقوله التعديل! هذا ما يقوله القانون السوري! هذا ما يقوله تشريع القتل!

ومن المثير أن أحدا من رجال الدين المعروفين، على وجه الإطلاق، لم يتجرأ على القول أنه مؤيد لوجود المادة 548! فهل هؤلاء الذين تدعي الحكومة السورية أنها "تراعيهم" جبناء إلى حد أن يكونوا، مثل الحكومة نفسها، بوجهين؟! لماذا لا يخرجون علنا فيقولون بكل وقاحة أن "دينهم" دين قتل للنساء بذريعة الشرف، إذا كان كذلك؟! أم هم فقط يروجون ذلك بألف طريقة وطريقة ثم يخرجون علينا ليكذبوا فيقولوا أنهم ضد القتل؟! أم لعل الحكومة السورية التي أثبتت مرارا ذكوريتها تتلطى خلف ستار "المجتمع" و"العادات" و"رجال الدين" لتثبت عدائها السافر لمواطنة النساء السوريات؟!

ولذلك فتعديل المادة 548 مرفوض جملة وتفصيلا. ولا يوجد أصلا تعديل مقبول. لأن أي تعديل سيتضمن حكما حق الذكور بقتل نسائهم. فيما يشكل إلغاء هذه المادة- العار الخيار الوحيد لنمسح وصمة العار هذه عن جبين التشريع السوري، بل عن جبين كل سوري وسورية.. فالأمر بسيط وواضح: إما أن النساء السوريات هن مواطنات، وبالتالي فإن قتلهن يستوجب العقوبة القصوى على أن لا تقل عن خمسة عشرة عاما، أو أن النساء السوريات هن ملكيات خاصة لما بين ساقي الذكور الذين تخلوا عن كل قيمة إنسانية وعادوا إلى البهيمية، وهو ما تؤكده المادة 548 بشكلها القديم، أو بتعديلاتها.

من جهة أخرى، قلنا مرارا أن رفضنا المطلق للمادة 548 نصا وفكرة، لا يعني أنها هي الأكثر استخدما في نحر النساء السوريات والرقص على دمائهن. بل هي المادة 192 من القانون نفسه التي تبيح جعل القاتل بطلا بكل معنى الكلمة.
وأوضحنا أيضا أن تلك المادة هي ما تستخدم على نطاق واسع من أجل تبرئة القتلة. وذلك بجر مفهوم "الدافع الشريف" إلى ما هو بلا أدنى شرف: القتل! فكيف بقتل الأم أو الزوجة أو الأخت أو الابنة؟! هو مطلق اللاشرف، ومطلق الانحطاط! فمن هو قادر على قتل أمه أو أخته أو ابنته، هو قادر على قتل أي إنسان آخر دون أن يرف له جفن! هو قادر على أن يبيع أرضه وعرضه وشره وقيمه ووطنه ودينه وكل ما يشكل فرقا بينه وبين الحيوان، مقابل حفنة من الفضة! ومن يشرع قتلهن مع وعد المكافأة، هو يشرع القتل ويطلق ثقافة العنف ويدعمها ويشجع عليها!


المادة 192 تم تجاهلها كليا في التعديل المذكور. مما يعني أن الحكومة السورية تنتهك وجودها ذاته. فنحن لا نحتاج حكومة لا تقر بواجبها الأساسي، بل مبرر وجودها الأساسي، وهو حماية حق الحياة المقدس لكل من مواطنيها ومواطناتها! لكن تجاهلها في هذا التعديل يؤكد أن ذبح مئات النساء السوريات لا يعني شيئا لقبيلة المتمشيخين المدافعين عن القتل والذين حولوا الدين إلى سلطان رهيب! لعلهم سيغيرون أفكارهم في إحدى حالتين: حين تقتل بناتهم ونسائهم فيفضحون! أو حين يشرع الحق نفسه للنساء حين يقتلن الذكور في الحالات نفسها! وربما يكون الحل الثاني جيدا. فهو، على الأرجح، سيخلصنا من الكثير من الفاسدين، كما سيخلصنا من الكثير من دعاة العنف المتسربلين بعباءات الدين!

وكنا قد قلنا مرارا أن إيقاف شلال الدم هذا الذي يحصد المئات سنويا، لا يمكن تحقيقه دون أن تعدل المادة 192 فتتضمن حظرا صريحا على استخدامها في أي قتل للنساء بذريعة الشرف! وأكد الملتقى الوطني حول جرائم الشرف ضرورة أن يعدل البند الثالث منها لينص على عقوبة لا تقل بحال عن 15 سنة! إلا أن الحكومة، في محاولة للتضليل، عمدت إلى تعديل بعض المواد المتعلقة بالمادة 192، تعديلات لا تصمد أمام نظرة واحدة متأنية لتنكشف على حقيقتها.

ففيما تم تشديد العقوبة قليلا فيما يخص المواد المرتبطة بشكل أو بآخر بالعذر المخفف، (243، 244) تجاهل المرسوم كلية المواد (240، 241) الماد ة 242، التي تشكل الأب الروحي للمادة 192. إذ تنص على: "يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجنى عليه."! وهذا يعني أن "ثورة الغضب"، تلك الغريزة الهمجية، هي فوق القانون السوري! وفي الواقع إن التزام القضاة بتطبيق روح هذه المادة يعني أن كل من يقتل موظفا لأنه تسبب له بمشكلة حياتية كبيرة يحق له الاستفادة من العذر المخفف! كذلك كل من يقتل طبيبا يرتكب خطأ طبيا بقصد أو بإهمال! بل إنه يعني أنه يحق لكل من ترك أرضه في الجزيرة السورية نتيجة انعدام إمكانية الري باستخدام المازوت بعد غلاء أسعاره الفادح، وتسبب ذلك بتشريده وتشريد أسرته، يحق له أن يستفيد من العذر المخفف إذا قام بقتل أي من المسؤولين عن القرار الاقتصادي المتعلق بذلك! فما هو أكثر خطورة من المس بحياة الأسرة المعاشية إلى حد أن تشرد من أرضها وبيته واستقرارها؟!

إلى ذلك، تجاهل التعديل كليا المواد المتعلقة بتحديد النسل، والإجهاض. وهما القضيتان اللتان تكاد لا توجد أسرة سورية واحدة لم تحتك بهما بشكل أو بآخر. وعشرات آلاف الأطباء يتعاملون يوميا مع هذا الواقع. كذلك فإن الحكومة السورية نفسها، التي لا تكف عن الادعاء أنها تعمل على الحد من الزيادة السكانية، تخضع اليوم خضوعا كليا لتكون، بكامل أعضائها، في سجن عدرا المركزي نظرا لأن المواد المتعلقة بالحد من الزيادة السكانية (الإجهاض ووسائل منع الحمل) تدينها إدانة موثقة بالدلائل العلنية والمثبتة!

وربما تكون ربع الخطوة الوحيدة التي يمكن الإشارة إليها إيجابيا هي تعديل المادة 508 المتعلقة بزواج المغتصب من ضحيته. إذ نص التعديل على إيقاع عقوبة سنتين به سواء تزوج بضحيته أم لا.
إلا أن ربع الخطوة هذا لا يخفي حقيقة أن الحكومة قد أقرت هنا أيضا أن النساء السوريات لسن مواطنات، بل هن فقط موضوع جنسي للذكور المغتصبين. فالسماح للمغتصب، أي لمن يمارس الجنس بالقوة والعنف، بالزواج من ضحيته، هذا السماح هو أصلا جريمة يجب أن يعاقب عليها من يسمح بها. فكيف بأن يعفى من العقوبة المنصوص عليها حين الاغتصاب؟ فهذا إذن قول صريح: اغتصبوا امرأة تعجبكم.. وبعد ذلك تزوجوها، ولن تبقوا في السجن إلا سنتين! تقضونها على "رجل واحدة"!

أكثر من ذلك، فإن الاغتصاب الزوجي المشرع قانونا في المادة 489 (من أكره غير زوجه بالعنف أو بالتهديد على الجماع عوقب بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة على الأقل.) لم يتطرق لها التعديل نهائيا! رغم معرفة الحكومة السورية معرفة تامة ويقينية أن عشرات آلاف النساء السوريات يتم اغتصابهن من قبل أزواجهن يوميا، ويترتب على ذلك آثار مدمرة بكل معنى الكلمة! لكن منذ متى كانت الحكومة السورية معنية بما يترتب من عنف وتمييز، وآثارهما، على النساء السوريات اللواتي لسن مواطنات من أي درجة كانت؟!

والكثير الكثير غير ذلك مما تجاهله التعديل. والتجاهل هنا يعني التأكيد وتثبيت ما هو موجود! وقد سال فيه حبر كثير خلال السنوات الماضية خاصة من المجتمع المدني السوري الذي أظهر حرصه وعمله وتفانيه من أجل المواطنة مرجعية أساسية وعليا لانتماء الأفراد بغض النظر عن دينهم وجنسهم وعرقهم و... لكن من الواضح أن المواطنة هي أمر لا يعني حكومة تسعى بكل ثقلها لجر المجتمع إلى المزيد من العنف والتمييز!

في الواقع، كان يجب أن تتغير كل القوانين السورية منذ أربعين عاما تقريبا. أي منذ أقر الدستور السوري. فمن لحظة إقرار الدستور باتت كل المواد القانونية المتعارضة معه بحكم الباطلة. كذلك، منذ وقت سورية على اتفاقيات مناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد النساء، وحقوق الطفل، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، باتت كل المواد القانونية المتعارضة معها بحكم الباطلة. لكن، هل يعني هذا للحكومة السورية شيئا؟! لا طبعا. بل هي ماضية في المزيد من تشريع العنف والتمييز ضد المرأة، أقله بتجاهل أن مشي السلحفاة في التعديلات يعني تكريسا للعنف والتمييز.

وما الحديث عن "التدرج" إلا ذرا للرماد في العيون. فالتدرج كان فكرة مقبولة لو أنه بدأ في الستينيات من القرن الماضي مثلا. أما في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، أي بعد مرور أكثر من نصف قرن على القوانين البالية التي تشرع العنف والتمييز، فإن الحديث عن التدرح هو تأكيد على الاستمرار في سياسة العنف والتمييز، تأكيد على أن الحكومة السورية ترفض رفضا قاطعا تثبت حقوق المواطنة للنساء السوريات، ترفض رفضا قاطعا أن تسمح لهن بأن يكن غير جاريات على أقدام ذكور يعيشون عصور الغابة الظلامية.!

لكل هذا، لا نستطيع إلا أن نرفض هذه التعديلات. ونقول أن ما نحتاجه ليس ترقيعا يزيد الطين بلة. بل أن نكون على قدر المسؤولية لنرمي إلى كتب التاريخ الصفراء كل القوانين التي تتضمن أي نوع من العنف أو التمييز ضد النساء أو الأطفال، أو على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو.. ونشرع قوانين جديدة كليا لا تنتمي إلا لمبدأ واحد بسيط وصريح هو مبدأ المواطنة. وكما يعرف الأطفال الآن: لا مواطنة مع العنف، ولا مواطنة مع التمييز.

ونحن مستمرون في عملنا اليومي من أجل مجتمع خال من العنف والتمييز بكافة صوره وأشكاله وتعبيراته.. مهما كان الطريق طويلا.


بسام القاضي، افتتاحية مرصد نساء سورية، (تعديل قانون العقوبات: تثبيت حق الذكور بقتل النساء السوريات! وخيبة أمل عميقة!)

خاص: مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern