افتتاحية المرصد

ما زال هناك البعض ممن يدافعون عن تمزيق الوطن باسم "الخصوصية" تارة، و"الدين" تارة أخرى! واضعين هدفا واحدا ووحيدا لهذا التمزيق: مزيد من إحكام القبضة على النساء السوريات وممارسة العنف والتمييز ضدهن، حتى باسم "المساواة"! فحين خرج إلى النور قانون الأحوال الشخصية للطائفة الكاثوليكية قلنا أن القوانين المستندة إلى الانتماءات الطائفية هي قوانين تمزيقية ولن تكون داعمة للنساء أيا كان منطوقها. فالنساء هن الأكثر خسارة في لعبة إمارات الطوائف. سواء تسمت هذه اللعبة بأسماء إسلامية، مسيحية، أو أي شكل ديني آخر.

وحين خرج المشروع الأسود للأحوال الشخصية، رفضناه بشدة لاعتبارات كثيرة أولها أنها طائفي بامتياز. ورفضنا أي رد عليه على أساس طائفي.

وضمن هذه اللعبة نفسها تعيش سورية منذ استقلالها تعددية في سلطاتها القضائية فيما يخص الأسرة تحت مسميات طائفية أيضا، ليست سوى إرثا ثقيلا من الاستعمارين العثماني أولا، ثم الفرنسي. فكلاهما قاما على الطائفية والتمزيق الطائفي، واعتمدا الطائفية وسيلة أساسية للسيطرة على سورية. وهكذا ظهرت لدينا محاكم خاصة بمن ولد لأب من المذهب الدرزي، وأخرى خاصة بمن ولد لأب من هذه الطائفة المسيحية أو تلك. كما لو لم نكن في بلد واحد يحمل علما واحدا ويعيش واقعا واحدا هو سورية؟


ويتناول الإعلام السوري بشكل دائم قضايا تتعلق بقانون الأحوال الشخصية، والذي يجري تطبيقه في "المحاكم الشرعية الإسلامية"، فيما يصمت دائما عن تلك القضايا التي تتعلق بالقوانين الطائفية الأخرى، والتي يجري تطبيقها في محاكم أخرى، ضمنها المحاكم الروحية المسيحية.

فهذه المحاكم باتت اليوم ساحة للتلاعب بالنساء وممارسة العنف ضدهن لا تختلف عن المحاكم الشرعية الإسلامية. كلاهما تعتمدان مبدأ واحدا هو أن المرأة ناقصة والرجل هو سيدها. ورغم تضمن قانون الأحوال الشخصية الكاثوليكي بعض الفقرات الجيدة بخصوص المرأة، إلا أنها أبقت بشكل مطلق على سلطة المحكمة الروحية على كل هذه الحقوق. فهي حقوق "تمنحها" المحكمة الروحية تلك، والرجال (حصرا الرجال، إذ يستحيل أن تكون امرأة في هذه المحاكم، لأنه متعارض مع "الدين" حسب ادعاء القائمين على هذه الرؤى الذكورية!)، وليست حقوقا حقيقية. وكما نعرف جميعا، وتعرف النساء اللواتي اضطررن للتعامل مع المحاكم (الشرعية والروحية) فإن تلك الحقوق المكتوبة على الورق لا تساوي حبرها حينما تبقى الثقافة الذكورية هي التي تقود كل شيء على أرض الواقع، وفي المؤسسات.

بل إن هذه المحاكم الروحية تستغل بعض المشاعر الدينية عند ضحايا الثقافة الذكورية من النساء، فتمرر تهديدات لا تخفى بتشويه السمعة أحيانا، وبـ"تبليط البحر" أحيانا أخرى، في إحكام واضح وصريح لحصار على هؤلاء النساء. إذ يترددن في نشر قضاياهن خوفا من أن تزيد مشاكلهن مع مجتمعهن نتيجة السلطة المطلقة لرجال الدين هؤلاء، وقدراتهم اللانهائية على تحقيق "عقوبات" حقيقية تجعل من حياة هؤلاء النساء جحيما بجحيم.

والمؤسف أن بعضا من النساء اللواتي يدعين أنهن "مدافعات" عن قضايا المرأة دخلن هذه اللعبة من أوسع أبوابها. خاصة أنها لعب "تدر" الكثير من الأموال. وهن يمارسن اليوم أبشع أنواع التلاعب والاستغلال ضد النساء هؤلاء بدعوى أنه لا يجب على هؤلاء النسوة أن يضعن قضاياهن حصريا عندهن. ليس فقط لأنهن مدعيات "ناشطات"، بل أيضا لأنهن "مسيحيات"! وهذا الواقع مرفوض قطعا، ويكون فضحهن بات مسألة وقت فقط. فالادعاء بالعمل في "حقوق الإنسان" أو "حقوق المرأة" ليس عباءة أخرى، ولا عمامة أخرى، لتحمي من يستغلها من أن يفضح ما يفعله. العنف ضد النساء هو عنف ضدهن أيا كان مصدره وأيا كانت ذرائعه.

مئات النساء السوريات (ما لم تكن آلاف منهن) يعشن اليوم تحت وطأة العنف المزدوج لمجرد أنهن ولدن لآباء "غير مسلمين"! كما لو كان هذا "نقيصة" بحقهن! فهن يتعرضن لكل ما تتعرض له المرأة "المسلمة" من عنف في كافة القوانين، وتتعرض أيضا لعنف آخر هو صمت الجميع عما تعانيه تحت ذرائع تجنب "الفتنة الطائفية" وما إلى ذلك من مسميات تهدف، في هذا المجال، إلى ذر الرماد في العيون.

فالنساء السوريات هن سوريات بغض النظر عن دينهن أو دين آبائهن. وانتماء إحداهن إلى دين ما، أو طائفة ما، أو انتماء أبيها إلى دين أو طائفة ما، لا يجب أن ينتقص قدر شعرة من مواطنيتها وسوريتها. وبالتالي فإن ما سبق أن قلناه عن مشروع قانون الأحوال الشخصية الطائفي الأسود، نعيده هنا مع التأكيد على أن الضرورة باتت تحتم إلغاء كافة أشكال التمييز الطائفي ضد المرأة والأطفال. ولا يمكن إلغاء ذلك ما دمنا ما زلنا نعتمد قوانين طائفية، ومحاكم طائفية. فكلاهما يجب التخلص منه مرة واحدة بصفته إرثا استعماريا لا غير.

وبالتالي فإن الخيارات باتت واضحة وبسيطة فعلا: إما قبول التمزيق الوطني المتزايد اليوم على أرضية قوانين احوال طائفية تلغي المواطنية وتحل محله الطائفية بأبشع معانيها، أو قانون أسرة عصري ومدني لا يعترف بغير معايير المواطنة بين السوريين والسوريات. وهذا الأخير يعني أنه لا يتضمن تمييزا بين المواطنين/ات أنفسهم/ن على أساس الدين، كما لا يتضمن تمييزا بين النساء على أساس الدين أيضا.

مهمة رجال الدين، أيا كان دينهم، هو مساعدة الناس على فهم دينهم بما هو أفضل لحياتهم اليومية، وليس ممارسة سلطات هي اختصاص الدولة حصرا. كما ليس ممارسة سلطات طائفية باسم الدولة.


ولعلنا نعيد النظر مرة أخرى على ما يجري حولنا، لنعرف جيدا أن خيارنا الوحيد هو الخيار الثاني. قانون أسرة عصري وطني ومدني يعتمد كل القيم السامية التي تخدم الأسرة السورية وتساعد على تطورها، وتحقق الشراكة المبنية على أساس المساواة بين الرجال والنساء، وتؤمن المصلحة الفضلى للطفل.. فهذا القانون الذي يمس حياتنا من لحظة الولادة حتى لحظة الممات، هو القانون الذي يشكل القاعدة الأساس لوجود المجتمع، ولوجود الدولة ذاتها.

وفي هذا السياق، نود الإشارة سريعا (ربما سيكون لها مقال منفصل) إلى ما قاله د. نائل جرجس في مقالته الهامة المنشورة في المرصد بعنوان: "مؤسسة الزواج الديني في الشرق الأوسط : انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان" حول قانون الأسرة المدني "الاختياري". مشيرا إلى أن هذا مطبق في العالم المتقدم. بينما يبدو لنا أن د. نائل وقع في خطأ حين اعتبر ما هو قائم في الدول المتقدمة هو "اختياري". فالجميع في تلك الدول مضطر للخضوع لقانون واحد حين وقوع المنازعات. ولا زواج معترف به في فرنسا، أو في أي بلد أوروبي آخر إلا الزواج الذي تقره الدولة والذي ينظمه قانون واحد. لكن، طبعا، من حق كل شخصين أن يختارا كيف ينظمان حياتهما ما دام ذلك لا يتعارض مع القانون. أي يجب على كل زواج أن يسجل وفق القانون الوطني المدني الوحيد، وهو الوحيد الذي يطبق في حالات الطلاق أو الحضانة أو غيرها. لكن يمكن للناس أن يعقدوا زواجا آخر (وليس بديلا) في الكنسية أو الجامع كشكل من الثقافة الدينية. وليس كزواج يترتب عليه أية آثار قانونية.

والخطأ الأساس هنا هو أنه لا يجوز أن يكون هناك قانونين للقضية نفسها. تعدد القوانين نحو مسالة واحدة هو أمر غير موجود، إلا في الحالات التي تشبه حالة المزيق الطائفي الذي نتحدث عنه، حيث يمكن لكل طائفة أو مجموعة أن تسن قوانينها الخاصة. الأمر الذي يطرح مجددا ضرورة التأكيد على أن قانون الأسرة يجب أن يكون واحدا لجميع السوريين والسوريات بغض النظر عن أي اعتبار آخر (الدين، الطائفة، المذهب، العرق، اللون..).

وبالطبع، لا يمكن أن يكون كذلك إلى تحت اعتبار واحد هو المواطنة. ولا يمكن أن تكون المواطنة حقيقية في ظل التمييز والتفرقة بين السوريين/ات على أساس الدين أو المذهب أو الجنس..


بسام القاضي، افتتاحية مرصد نساء سورية ("المحاكم الروحية": النساء ضحايا قوانين التمزيق الطائفي والرؤى الذكورية!)

خاص: مرصد نساء سورية

0
0
0
s2smodern