افتتاحية المرصد

بالإضافة إلى الأهمية التاريخية للحدث الذي انطلق منه يوم المرأة العالمي، إلا أن الأكثر أهمية برأينا أنه يوم لإعادة التأكيد أن النساء، في مختلف بقاع العالم وإن بدرجات مختلفة، يعانين العنف والتمييز ضدهن كما لو كن كائنات من نوع مختلف!
فالمساواة بلا تحفظ ولا شروط، هو الهدف الصحيح الوحيد من أجل تجاوز ذلك والتقدم نحو حياة يكون فيها البشر على قدم المساواة في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الجنس أو الدين أو اللغة أو اللون أو العرق أو أي من أوجه الاختلاف "الطبيعي" الأخرى..

إلا أن هذه المساواة ما تزال هدفا، ولم تتحقق بعد في أي مكان من العالم. فمن 5000 امرأة تقتل سنويا بذريعة "الشرف"، إلى الإتجار بالنساء في الدعارة ونقل المخدرات وسرقة الأعضاء وغيرها، إلى العنف المباشر الذي يطال امرأة من كل ثلاث نساء حول العالم، إلى التمييز في الأجور بين الرجل والمرأة للعمل نفسه.. تمضي حياتنا اليوم وهي ما تزال قائمة على العنف، خاصة العنف ضد المرأة. والعنف هو القاعدة الأساس لعالم غير بشري هو: عالم الغاب، حيث السلطة للأقوى!

المساواة إذا ما تزال بحاجة إلى مشوار طويل من العمل الجاد على كافة المستويات، ومن قبل الجميع، من أجل التقدم نحوها خطوات. وهذا يعني ببساطة: التقدم نحو إنسانيتنا خطوات. ولا شيء آخر.

أما الذين يتشدقون ليل نهار بأن المساواة هي مفهوم "غربي" هدفه اختراق "مجتمعاتنا"، (رجالا ونساء: فالذكورة هي ثقافة سلطوية يمكن للرجال والنساء أن يتبنوها) فهم يعرفون جيدا ما يقولون وما يفعلون. هم يعرفون أن المساواة باتت اليوم تهدد مصالح الذكورة في كل مكان من العالم. وأن المساواة سوف ترمي إلى غير رجعة الاعتبار الطبيعي المتمثل في "قطعة لحم" صغيرة تمنح سلة من الامتيازات لمن يولد بها. وستضع مكانها الكفاءة التي يمكن لأي إنسان أن يتمتع بها، رجلا كان أم أنثى. وهؤلاء ليسوا إلى دعاة عنف وتمييز، مهما تمكنوا من تطويع اللغة لكي تقول غير ذلك.

الأمر نفسه في سورية، كما في كل مكان من العالم. إلا أن سورية، بلدنا الذي كان سباقا في المنطقة في تأمين العديد من حقوق النساء (الانتخاب، التجمع في اتحاد، المشاركة في البرلمان..)، يقع اليوم، بكل أسف، تحت سلطة ذكورية عارية الوجه لم يعرف مثلها سابقا.

اليوم تكاد سورية تنفرد بين دول المنطقة قاطبة، ومن الدول القليلة في العالم، التي تحمل بشدة على المرأة منتقصة من مواطنيتها، بل ومن إنسانيتها أيضا، متجهة إلى الوراء. وتجهد من أجل حرمانها من حقوقها حتى تلك التي اكتسبتها خلال العقود الماضية. سورية اليوم بلد يمضي فعلا إلى الوراء، بقيادة حكومة لا تخجل من أن تنافق على حساب أكثر من ثلاثة ملايين امرأة سورية، وأكثر من 10 ملايين طفل وطفلة.

ولو أردنا أن نستعيد العمل اليومي الذي تقوم به الحكومة في طريقها المظلم هذا، لاحتجنا إلى صفحات وصفحات. لكن أبرز  هذه المعالم:
ما تزال النساء تقتل في سورية بحماية من الحكومة التي رفضت إلغاء المادة 548 (ما صار اسمها المرسوم 37 لعام 2009)/ وحماية المادة 192، وكلاهما يعبر جليا عن أن للذكر سلطة الله على الأرض، وسلطة فوق سلطة الدولة: فهو يقبض أرواح ما يقارب 200 امرأة سنويا دون عقاب يذكر!

ما تزال أكثر من 3 ملايين امرأة سورية مصنفة على أنها "رحم مستأجر"! فما يحمل به هذا الرحم تسعة أشهر، وينجبه، ويربيه وينشئه، هو ملك حصري للرجل لا علاقة للأم به إطلاقا! حتى أنه لا يحصل على جنسية أمه، بل فقط على جنسية أبيه! قانون الجنسية تعبير صريح عن ذكورية هذه الحكومة التي لا تعترف بالنساء كمواطنات. فأول وأساس حق المواطنة أن يكون حق الانتماء للوطن متساو. لكن هيهات: المرأة السورية التي تتجرأ على الخروج عن قبيلة الذكور لتختار من تشاركه الحياة من جنسية أخرى، تعاقب ويعاقب أطفالها أشد عقاب بحرمانهم من الانتماء إلى وطنهم الأم: سورية!

وما تزال المرأة السورية عارية وحيدة في قانون يسمى "قانون الأحوال الشخصية"! هي واحدة من بين أربع "جاريات" يمكن للذكر أن يتنقل بينهن لإرضاء متعه الجنسية! وهي ضحية كلمة يقولها الرجل ليرميها خارج بيت الزوجية بغض النظر عن رأيها أو رغبتها! وهي خادمة مستعبدة تطرد (حين الطلاق) من بيت شاركت في بنائه بزهرة عمرها وشبابها دون أن تأخذ معها إلا ثيابها! وهي مرضعة مجانية فإذا رغبت أن ترضع أولادها "دون أجر"، أو يحق للذكر المقدام أن يأخذهم منها ليعطيهم إلى "مرضعة متبرعة"! وهي حاضنة بلا اسم ولا هوية عليها أن "تدبر رأسها" بإيجاد مكان لتحضن فيه أطفالها حين الطلاق لأن "الذكر" لم يعد يستطيع أن "يستخدمها جنسيا" فلا واجب عليه بتأمين سكن لها حين حضانتها لـ"أطفاله"! وهي عبدة للذكر إذا ما امتنعت عن فعل ما يريد ويرغب ويشتهي، أو إذا فعلت ما يختمه بختمه الأخضر، تتحول إلى "ناشز" يمكن للذكر أن يحرمها حتى من "الطعام" في بيت الزوجية! وهي "أم" فقط حين الحمل والولادة، أما بعد ذلك فكل شيء يتعلق بما أنجبه رحمها هو "للذكر" لا ولاية لها عليه ولا سلطة!

وما تزال المرأة العاملة في القطاع الخاص، والقطاع الزراعي، فريسة سهلة للغرائز الحيوانية الذكورية لا يحميها حام. فحتى القانون القديم والمتخلف لا يجد من يطبقه في مؤسسات تقوم كليا على الذكورة إلى درجة أن النساء المعنفات في سورية يفضلن المزيد والمزيد من العنف الأسري (من الزوج والأب والابن..) على "عنف المؤسسات" في الشرطة أو القضاء أو..

وما تزال النساء العاملات في القطاع العام يدفعن دفعا إلى قطاعات هامشية مثل التمريض، التعليم، والسكرتاريا والأعمال المكتبية.. ويقصين قدر الإمكان عن العمل المنتج الذي يشكل قاعدة هرم الاقتصاد في كل مكان من العالم. الأمر الذي يعني دائما غيابها بالضرورة عن مراكز صنع القرار.

وفوق كل ذلك، تستمر الحكومة في اعتماد قانون جمعيات هو في الحقيقة قانون لتدمير المجتمع المدني. فوزارة تكنى بـ"وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل" ترفض الترخيص لأية جمعية تعمل في أي من مجالات حقوق الإنسان، وترفض الترخيص لأية جمعية تعمل في مناهضة العنف والتمييز ضد المرأة، وتضيق على الجمعيات المرخصة أصولا بحرمانها من أية إمكانية لتطوير عملها عبر شراكات مع جهات مختلفة، بل حتى منعت هذه "الدولة داخل الدولة" الجمعيات المرخصة من أن تقوم بأي نشاط مع وزارات الدولة نفسه دون أن "تركع أمام ختم الوزارة" للموافقة على نشاطها!
وتستمر في التضييق على الإعلام السوري الذي بذل جهودا جبارة خلال السنوات القليلة الماضية للنهوض بواجبه تجاه مجتمعه السوري، عبر إصدار القرارات والأوامر الشفهية بمنع الحديث في هذا الأمر أو ذاك، ومنع هذا/ه أو ذاك/تلك من التكلم في الإذاعات أو التلفاز!

والكثير الكثير غير ذلك..

لكن، رغم كل هذا التوجه المريض للحكومة السورية التي تقود المجتمع السوري إلى الوراء، بالضد من كل الشعارات المرفوعة عن التطوير والتحديث، وتحارب الاعتدال والعقلانية في الدين والعلمانية، وتدعم الأصولية التي ترفض وجود المرأة أصلا إلا كـ"محظية مدفوعة الأجر سلفا"! فإن المرأة السورية، والكثير من الرجال في سورية، تمضي في معركتها ضد العنف والتمييز. المرأة السورية تثبت اليوم، رغم أنف الجميع، أنها متساوية في الإنسانية مع الرجل. ليس أقدر منها في شيء، ولا أفضل منها في القدرة على التعلم، والتثقف، والعمل، والإدارة، والقيادة.. وأن مساواتها في المواطنة ستتحقق لا محالة..

ورغم أنف دعاة العنف والتمييز، تثبت المرأة السورية أنها لن تتخلى عن مواطنيتها. وأن المواطنة لا تكون إلا بالتساوي في الحقوق والوجبات. وان أي انتهاك لهذا المبدأ هو انتهاك للمواطنة نفسها. وأن انتهاك المواطنة يعني أن المنتهك يفقد شرعيته الدستورية حكما. فالدستور السوري ينص على أن المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات.

وهذا كله لا يقلل من أهمية أنه حان الوقت لتلتفت النساء إلى قضيتهن دون خوف أو وجل، دون تردد أو حسابات لا أحد يخسر فيها سواها. حان الوقت لكي تكسر النساء بأصواتهن وأيديهن حاجز الصمت. أن يعلن بأسمائهن الحقيقية عن كل عنف وتمييز يتعرضن له، ويواجهنه. أن يقفن صفا واحدا ضد مشروع قانون يريد أن يجعلهن عبدات بالمعنى الدقيق للكلمة! ضد قانون الجنسية الذي ينتهك حقوقهن ويعتبرهن تابعات للرجل في أعز ما يملك أي انسان: انتماءه لوطنه! وضد العنف الجنسي والجسدي والاقتصادي الذي يتعرضن له يوميا. وضد مرتدي العباءات الدينية الذين لم يردعهم رادع عن توظيف الدين خدمة لغرائزهم وسلطتهم وانحطاط إنسانيتهم.

فمهما فعل الآخرون، أحدا لن يستطيع أن ينجز تغييرا جديا على الأرض ما لم تخرج النساء السوريات من السلطة النفسية التي يحاصرهن به المجتمع تحت مسمى "عيب"! إعلان أنني تعرضت لانتهاك أو ضرب أو اغتصاب أو استغلال.. ليس  عيب. بل هو المفتاح الحقيقي لكي نستطيع معا أن نخرج من حالة العنف المستمر والمستشري هذه. والتي تذهب ضحيتها حياتنا كلها، بكل تفاصيلها، رجالا ونساء وأطفالا..

ولا يقلل من أهمية أنه حان الوقت لكي تخجل منظمات المجتمع المدني، والأحزاب جميعها، "على نفسها" من تراجعها الذي لا مبرر له سوى كسل القائمين/ات عليها وغرقهم/ن في مصالحهم/ن الخاصة! بل وتبني بعضهم للثقافة الذكورية نفسها! فلا أحد يجبر هذه المنظمات على أن تهتم بالشأن العام. لكن ما دامت هي من تطرح نفسها كذلك فإنه حان الوقت لتعي أن ما مضى قد مضى. وأن "إنجازات" الماضي لا تغطي أبدا على فشل اليوم! وأن الزمن الذي كانت فيه تختبئ مطمئنة خلف "قدسيتها" الخاصة حيث لا يستطيع أحد أن يوجه لها نقدا أو يكشف واقعها دون أن "يمرمغ" بوحل الاتهامات، قد ولى.

فإما أن تعمل هذه المنظمات والأحزاب على تحمل مسؤوليتها الحقيقية تجاه المجتمع، وخاصة تجاه النساء والأطفال والمعوقين، أو أنها سوف تلقى النقد المنهجي والدائم والذي سيتوسع ويتعمق يوما إثر يوم. كل من يضع نفسه في موضع الشأن العام هو مسؤول علنا وأمام كل الناس. بلا حجج ولا ذرائع ولا مبررات.

يوم المرأة العالمي، هو يوم للتأكيد مجددا أن سورية تعاني من العنف والتمييز ضد النساء أكثر بكثير مما يمكنها أن تكون عليه. وهذا هو معيارنا الدائم: إمكانيتنا، وليس مقارنة مع أحد. سورية اليوم لديها كل الإمكانية لتمضي خطوات إلى الأمام في رفع هذا الانتهاك الفاضح لحقوق المواطنة لدى النساء. وإذا كانت هناك قوى، على رأسها الحكومة، ترفض هذا المبدأ البسيط، فإن الحياة، وبالعمل الدؤوب، ستفرض على دعاة العنف والتمييز، دعاة العنصرية الجنسية، أن يخرجوا من مساحة الرؤية إلى حيث مكانهم "الطبيعي"، حيث الذكورة هي السلطة: الغابة.


افتتاحية مرصد نساء سورية، (يوم المرأة العالمي: سورية تناقض تاريخها)

خاص: نساء سورية، (910/3/2010)

0
0
0
s2smodern