افتتاحية المرصد

منذ سنوات طويلة والنساء السوريات يعانين تمييزا على مستويات مختلفة، تدعمها وتنظمها قوانين مختلفة، وآليات مؤسساتية، ورجال في مواقع مختلفة (في الحكومة، والمؤسسات الدينية، و"المجتمع المدني" أيضا)، في تناقض واضح وصريح مع التطور الجذري الذي حصل في المجتمع السوري، وجعل من المرأة شريكا أساسيا في الحياة السورية اليوم. سواء في البرلمان، المناصب القيادية، قوة العمل الرسمية وغير الرسمية.. وغير ذلك.

من تلك القوانين قانون الجنسية الذي يدعي البعض أنه يقوم على "حق الدم"، فيما هو يقوم في الحقيقة على "حق الذكر". فالمرأة التي تحبل بأطفالها هي من تصل أطفالها بالحياة عبر دمها، وليس عبر دم الرجل! ومع ذلك، ينص قانون الجنسية السوري على أن من يولد لوالد سوري فهو سوري بالولادة. واستخدام صيغة المذكر، وعدم النص على صيغة المؤنث، يعني تلقائيا أن الأطفال السوريين المولودين من الوالدة السورية ليسوا بسوريين إلا إذا كان أباؤهم سوريين! فإذا كان الوالد غير سوري، حرم الطفل من حقه الأساسي في الجنسية النابع من ولادته لأم، أي لمواطنة سورية يحق لها أن تنتخب رئيس الجمهورية، وأعضاء مجلس الشعب، وأن تدير وزارات.. ولكنه لا يحق لطفلها أن يتمتع بجنسيتها.


ورغم المحاولات الكثيرة التي جرت من أجل تعديل هذا القانون، ما تزال الحكومة السورية تصر على حرمان المرأة السورية من هذا الحق، كما لو كان عقوبة قبلية لها لأنها تزوجت من "ذكر ما خارج القبيلة"! وذرائع الحكومة في ذلك أقل ما يقال عنها أنها واهية وظاهر البطلان.


لدى الحكومة السورية ذريعتين في هذا الشأن:

1- أن منح الأطفال السوريين حق الجنسية السورية بغض النظر عن جنسية الوالد، ستؤثر على "حق العودة" بالنسبة للأطفال المولودين من أم (أي مواطنة) سورية، ومن أب فلسطيني.

صحيح أن جامعة الدول العربية قد اتخذت مثل هذا القرار، بمعنى أن لا يعطى أطفال الآباء الفلسطينين جنسية أمهاتهم، إلا أن ذلك كان أولا في ظرف خاص (الأردن). وثانيا، وهو الأهم، أنه قرار ينتمي إلى فئة القرارات التي صيغت دون أي تفكير بأية حقوق يجري انتهاكها من خلاله.

فحق العودة الذي أقرته الأمم المتحدة غير مرتبط إطلاقا بحصول الشخص على جنسية أخرى. وما لم يتخل الشخص الفلسطيني عن جنسيته الفلسطينية، فحقه في العودة محفوظ (عموما) وفق قرار الأمم المتحدة الذي لم تعارضه جامعة الدول العربية، والذي (من جهة أخرى) لا يتضمن تفاصيل حول كيفية ترجمة هذا الحق. وبالتالي فإن الادعاء أن حصول الأطفال السوريين على حقهم بالجنسية السورية، إذا كان الآباء فلسطينيون، يؤثر على حقه المذكور، هو ادعاء باطل جملة وتفصيلا، وتعرف الحكومة السورية جيدا هذا الأمر.


2- أن هناك "مشكلة كردية" تتعلق بالأكراد السوريين الذين حرموا من الجنسية في أواسط القرن الماضي. وأن هذه مشكلة "سياسية" يجب حلها سياسيا وليس قانونيا.

بعيدا عن المستوى "السياسي" لهذه المشكلة، فهو ليس شأننا، ينطبق هنا ما قلناه على الأطفال المولودين من أب فلسطيني. فحل مشكلة الأب السوري الكردي المحروم من الجنسية هو شأن، وحق الطفل المولود من أم سورية (كردية أو غير كردية) متزوجة من أب سوري كردي (محروم أو غير محروم) هو شأن آخر. حق الطفل المولود من أم سورية هو الأساس، وهو ما يجب أن يكون في المقام الأول، لا أية اعتبارات أخرى.


من جانب آخر، وبعيدا عن الذرائع، فإن حق الأطفال المولودين لأمهات سوريات بجنسية أمهاتهم هو حق أساسي ينتمي إلى فئة حقوق المواطنة. ويشكل أي حرمان لأي فرد من حقوق المواطنة انتهاكا خطيرا بغض النظر عن الأسباب. وحين يتعارض حق المواطنة مع "حق آخر"، ينتمي إلى مستويات أقل شأنا مثل المستوى السياسي، فإن لحق المواطنة الأولوية دائما، وليس للحقوق الأخرى. وإلا فلا يعود هناك معنى للمواطنة من أصلها، إذا كانت الحقوق المرتبطة بها سوف يجري التلاعب بها أو انتقاصها تحت ذرائع مختلفة!


وكان د. محمد حبش، والعديد من زملائه وزميلاته في البرلمان السوري قد طرحوا/ن مرات عدة مشروع قانون لإزالة هذا الانتهاك لحق الطفل السوري المحروم من جنسية أمه، إلا أنه رد مرات ومرات بالذرائع سابقة الذكر. وهو ما دفع د. حبش وزملائه إلا إعادة صياغة المشروع بحيث يقوم على استثناء الأطفال المولودين من أب فلسطيني.


يعتقد البعض أن هذا الإجراء "صحيح"، أو حتى أنه "مقبول". إلا أنه ليس كذلك. فاستثناء الأطفال المولودين من أب فلسطيني هو أيضا انتهاك لحق المواطنة للأطفال السوريين. ورغم أن الحكومة السورية تعرف جيدا ما قلناه أعلاه أن تمتع الأطفال السوريين المولودين لأم سورية وأب فلسطيني لا يتعارض مع "حق العودة"، إلا أنها ما تزال مصرة على تقديم ذرائعها على الحق الذي يشكل أساس حقوق المواطنة كلها.


وإذ نقدر جهد د. حبش وغيره في هذ المجال، ونؤيد بشدة العمل من أجل تعديل قانون الجنسية، فإننا نضع هذا التحفظ على استثناء أي من الأطفال المولودين من أمهات سوريات، إذ سيبقى الاستثناء المشكلة قائمة من حيث الجوهر، وسيبقي عددا كبيرا من الأطفال السوريين بالولادة محرومين من جنسيتهم. خاصة أن الفلسطينيين يعيشون في سورية منذ عقود في ما يشبه الاندماج والكثير من النساء السوريات متزوجات من رجال فلسطينيين، وأيضا الكثير من الرجال السوريين متزوجين من نساء فلسطينيات. والحل الجزئي للمشكلة الآن، لن يغلق هذا الملف التمييزي.



نساء سورية، افتتاحية مرصد نساء سورية، (هل سيقرّ حق المرأة السورية بمنح جنسيتها لأطفالها؟)

خاص: نساء سورية

0
0
0
s2smodern