افتتاحية المرصد

إنها ضائعة حقا! ضائعة في بلد يدعي أنه حاضر في القرن الواحد والعشرين، بينما ما يزال يحتفظ في قوانينه بمادة أقل ما يقال فيها أنها تشعر الإنسان، حتى إنسان العصور البربرية، بالخجل من أنه يعيش في "ظلها" الدموي القاتم!

ضائعة حيث يقف السادة الذكور (والسادة الذكور هم "ثقافة" وليسوا جنسا: ففيهم نساء وفيهم رجال) يحتفلون بقرع كؤوس النفاق في المحافل الدولية أن سورية مضت بعيدا في وضع المرأة فيها، مستشهدين بكوتا النساء في البرلمان السوري، وبأن هناك مسؤولات في الحكومة هن نساء، وأن بين نواب رئيس الجمهورية ومستشاريه نساء أيضا! بينما هم مستمتعون بطعم دماء السوريات الضحايا على مذبح المادة 548 (و192) من قانون العقوبات السوري، وهي تسكب دماء ما يقارب 200 امرأة سنويا (رغم أن الحكومة نفسها اعترفت بنحو 40-50 جريمة في العام! أي 40-50 جريمة استفاد القتلة فيها من الحماية القانونية! بينما أضعاف هذا العدد ممن ارتكب جريمته طامعا في تلك الحماية، لأنها موجودة!).. وبينما يمكن لزوج أي من الوزيرات أو عضوات مجلس الشعب أو المستشارات أن يطلقها لأي سبب دون أية مساءلة! وتخرج بثيابها (إن تكرم عليها زوجها بثيابها!)، دون أي قرش آخر! وبينما لا يمكن لأي منهما أن تكون مسؤولة عن أموال أي من أطفالها، مهما كانت الأسباب! ولا يمكن لها أن تكون مسؤولة عنهم، بأي حال من الأحوال، إلا إذا انقرض الذكور من جهة الأب!

ضائعة حيث يمكن لدعاة العنف البربري ضد النساء أن يصرخوا بدعوتهم على منابر دور العبادة، وعبر "كاسيتات" تملأ الشوارع والأزقة! وعبر كتب وكراسات توزع علنا في الباصات والبولمانات! محولين أديانهم (السامية أصلا) إلى ذكور مستفزة لا هم لها سوى قياس كعب الصبية التي تمر في الشارع، أو تتبع رائحة عطرها (الفاسق)! ولا يمكن لجمعية أن تقيم ندوة واحدة مناهضة لهذا العنف! وتسحب كتب وتراخيص لمن يناهض هذا العنف!

ضائعة حيث يمكن للطفل اللقيط، مجهول الأب، أن يحصل على جنسية "سورية"، بينما يحرم أطفال المرأة السورية التي اختارت أن تتزوج من غير "رجال القبيلة" (ألا يعود بنا قانون الجنسية هذا إلى مفهوم القبيلة المبني على النسب الذكوري فقط!) من حقها، وحق أبنائها وبناتها الطبيعي بالتمتع بجنسية أمهم!

ضائعة حقا.. حيث تشتم النساء السوريات صبحا ومساء من ذكور العائلة، وحيث يحرمن من أية حرية في التصرف بحياتهن، وحيث يحرمن من الإرث بشكل شبه مطلق، وحيث يهمشن في سوق الإنتاج بدفعهن "قسرا" إلى اختصاصات خدمية معينة (التمريض، التعليم، السكرتارية، الأعمال المكتبية..)..

ضائعة حيث توجد وزارة تفاخر بأنها منحت، في نحو أربعين عاما، ترخيصات بالعمل لنحو 2000 جمعية (أقل مما يوجد في منطقة واحدة من بلد واحد متحضر!)، ليس بينها جمعية واحدة تعلن في برنامجها أنها تهدف إلى مناهضة العنف ضد المرأة، أو إلى مناهضة التمييز القانوني والمؤسساتي والمجتمعي ضدها، أو إلى ضمان تحقيق المساواة في الحقوق والواجبات بينها وبين الرجل السوري (حتى "الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة"، وهي الجمعية الوحيدة المرخصة التي تحمل في اسمها كلمة "امرأة"! لا يتضمن نظامها الداخلي وأهدافها المعلنة فيه كلمة واحدة حول مناهضة العنف أو تحقيق المساواة أو.. وإلا لما حصلت أصلا على الترخيص!).

ضائعة حقوق النساء السوريات في زحمة "تحولات" الحكومة السورية التي تتقن جميع أنواع التحولات إلا التحول باتجاه اعتبار المرأة السورية مواطنة.. وإنسانة! ولكنها واهمة أيضا.. واهمة وهي تعتقد أنها يمكن لها البقاء طويلا في انتهاكها الصريح هذا لحقوق نصف المجتمع السوري، عددا و"عدة"!  واهمة وهي تظن أن بضع جمل هنا وهناك يمكن لها أن تخفي حقيقة أن مئات آلاف النساء السوريات يعملن بدون أجر في استثمارات زراعية لا يلقين من نتائجها إلى المزيد من العنف الأسري، والعنف الاقتصادي الحكومي.. وهي تظن أن تهميش النساء في "مناصب" وهمية أو غير فاعلة يمكن له أن "يلمع" صورتها! وهي تحلم أن "قانون تدمير الجمعيات" سيء الصيت يمكن له أن يوقف الحركة التي بدأت قبل أعوام والتي لن تنتهي قبل أن تتحقق المطالب جميعها التي تتلخص بأن المواطنية هي حق للنساء والرجال على قدم المساواة. وأن المواطنية هي المساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة في الحصول على الخدمات، والمساواة في الحصول على الفرص، والمساواة في اتخاذ القرار، وخاصة المساواة في حق كل منهما بإدارة حياته بنفسه.

ولذلك سنقول:
نعم.. نحن نضع وردة حمراء لكل امرأة سورية قضت على مذبح "العار"! لكل امرأة سورية تناطح الليل والنهار من أجل أطفالها المحرومين من جنسية وطنهم! لكل امرأة سورية تشقى في عملها من أجل أسرتها ثم لا تنال سوى المزيد من العنف والتمييز! لكل امرأة سورية تسعى لنخرج من "قروننا الوسطى"، إلى فضاء الحرية، فضاء الإنسان.. هؤلاء هن زينة سورية وألقها.. هؤلاء هن ماضيها وحاضرها ومستقبلها.. هؤلاء، والرجال الذين يتمتعون حقا بصفة الرجولة: أي بصفة أنهم لا يرون في أنفسهم أي امتياز على شريكاتهم في الإنسانية، ويطبقون ذلك في كل حياتهم رافضين ثقافة الغابة وحماتها ومروجيها..

"نحن"، ليس "مرصد نساء سورية" فحسب، بل جميع النساء والرجال الذين يعملون بصمت ودأب في مناهضة كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة.. نساء ورجال في الإعلام (في التلفاز السوري بقنواته، في إذاعات الـ إف ام، في الصحف والمجلات..)، ونساء ورجال في جمعيات بعضها لم ولن تحصل على "ترخيص"، ولا يتوقفون عن البحث عن أشكال جديدة للعمل.. نساء ورجال أيضا في بعض مواقع المسؤولية "الحكومية" يناطحون الصخر من أجل التغيير.. نساء ورجال يمارسون ثقافة المساواة في حياتهم اليومية: في المنزل، في الشارع، في العمل، وفي كل مكان..

لكل هؤلاء الذين يعز ذكر أسمائهم جميعا: مادمنا نعمل، فسيأتي يوم نرى فيه سورية التي لا تميز بين أفرادها.. سورية التي يمكننا أن نقول عنها بفخر: نحن من بلد المساواة..


بسام القاضي، (من يضع وردة حمراء على القبور الضائعة لضحايا "جرائم الشرف"!)

خاص: نساء سورية

0
0
0
s2smodern