الإرشاد التربوي النفسي… مسؤولية جماعية وحاجة في مدارسنا

من المعلوم أن دور الإرشاد التربوي قد تنامى وتعاظم في السنوات الأخيرة، بعد أن أُلغي ما كان يُعرف بالتربية العسكرية، إذ كان للمدرب الدور الكبير في الحد من الفوضى بالاعتماد على الحزم دون الخوض في نفسية الطالب والبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى انحرافه – إن جاز التعبير. وبدأ الإرشاد التربوي يجد القبول في أوساط الطلبة من مختلف المراحل وحتى لدى أهاليهم.

وأصبحنا نسمع عن حالات استطاع فيها المرشد التربوي في المدرسة إيجاد حلول ناجعة لها أدت إلى عودة أصحابها عن السير في الطريق الخاطئ، بالاعتماد على طرق متعددة بعيدة كل البعد عمّا كان يستخدم سابقاً. ولو أن للعديد من المدرسين آراء تخالف هذا القول وتطالب بعودة التربية العسكرية لأنها الوحيدة القادرة عن القضاء على الفوضى حسب رأيهم! وللوقوف على حقيقة ما يقال في هذا الشأن التقينا بالعديد من المدرسين وبعض الطلبة الذين تنوعت آراؤهم:

هالة إبراهيم (مديرة مدرسة)، تحدثت عن أهمية الإرشاد التربوي في المدرسة، وأوضحت أن البعض يجهلون حقيقة هذا الاختصاص ويفسرونه على أساس أنه حالة مرضية. وقد يكون هذا هو السبب في تخوف البعض منه. الحاجة دائمة للإرشاد التربوي خصوصاً في الظروف الراهنة، وهذا يتطلب من المرشد التربوي المجهّز أكاديمياً أمراً في غاية الأهمية وهو التعب على نفسه، لأنه يعمل في اختصاص جديد، وعليه أن يتوقع مجموعة من العوائق التي تنتظره. للشخصية أهمية كبيرة في عمل المرشد التربوي، ومعظم الإداريين التقليديين لا يتقبلون عمل المرشد التربوي ولا يفهمون طبيعة عمله. وهنا يأتي دور المرشد نفسه في إيضاح طبيعة عمله.

المرشد التربوي لديه جملة من المعوقات تمنعه من ممارسة عمله بشكل جيد، منها عدم وجود مكان خاص تفرضه حساسية مهمته وسرية عمله. القسم الأكبر من الأهل حتى الآن لا يتفهم طبيعة عمل المرشد، لأن المفهوم السائد هو أن عمل المرشد ينحصر مع التلميذ الذي يعاني عقدة نفسية. المرشد يحتاج إلى تعاون من الإدارة والجهاز التدريسي والأهل. عندما يلجأ تلميذ أو تلميذة إلى مدرّس مادة ما أو مدير المدرسة، عليهم أن يحولوا الحالة إلى المرشد التربوي لأنه الأقدر على إيجاد الحلول لها. بعض المرشدين لا يدركون أهمية الحالات الخاصة في المدرسة، فتخيل أن أحدهم أرسل كتاب شكر لتعاون والد أحد التلاميذ مع الجهاز الإداري، علماً أن والد التلميذ متوفى منذ سنوات!. التأثير السلبي لإلغاء مادة التربية العسكرية جاء نتيجة عدم استخدام معادل موضوعي لإلغائها، علماً أنه في العام الماضي صدرت تعليمات للجهات الإدارية تسمح بإعادة ضبط المدرسة من خلال بعض الصلاحيات للجهاز الإداري، ولكن لم يتم تفعيلها. أنا ضد العودة للتربية العسكرية في المدارس، ولكنني مع إيجاد البديل المناسب الذي يسمح بالحد من الفوضى.

محسن سلمان (مدرّس علوم طبيعية)، تحدث عن دور المرشد التربوي في المدرسة مؤكداً أن عدم التعاون بينه وبين الجهاز الإداري والتدريسي من أهم عوامل فشله. وأضاف: لو كنت شخصياً مديراً لمدرسة ما فإنني سأهمّش دور المرشد التربوي، ولا قناعة لدي بما يقوم به. فالحزم هو العلاج الناجح للفوضى في المدارس. التلميذ يخضع للتربية المنزلية التي تتحكم في سلوكه، وعلينا ألاّ ننسى سلطة الأب أو سلطة الأخ الأكبر، وبالتالي هو غير معتاد على أسلوب الحوار. جربنا لعدة سنوات أسلوب الكلام الجميل والحوار الهادئ مع التلميذ، ولكن دون جدوى – أستثني عشرة في المئة من التلاميذ – من الممكن أن تؤثر فيهم الكلمة الحلوة ويتقبلون الحوار، بينما يسخر الباقون من محاولة المرشد التربوي الحوار معهم والبحث عن حلول لمشاكلهم. الخلل الأسروي ينعكس على سلوك التلميذ في المدرسة. مؤخراً بدأ دور المرشد التربوي يتبلور، وهناك بعض الحالات التي نجح فيها الإرشاد التربوي بإيجاد حلول لبعض المشاكل. هناك حاجز لا يزال بين التلميذ والمرشد التربوي ونحتاج إلى مدة كي نتخلص من عقلية العنف والزجر. حقيقة الأمر أن الجميع يتآمر على المرشد التربوي ويسعى لإفشاله!

صلاح يونس (مهندس مدني)، أكد أن للمرشد التربوي دوراً أساسياً في المدرسة، إن أراد أن يأخذ دوره. فالمرشد بشخصيته وعمله المستقل يستطيع أن يثبت حضوره. أضف إلى ذلك علاقته بالناس وبالطلاب. عليه أن يبني صداقة حقيقية تمكنه من الدخول إلى عمق نفسية التلميذ بعيداً عن الأساليب الزجرية، مادام لا يوجد حصة درسية يستطيع من خلالها التواصل مع التلاميذ. وعن دور الإدارة في عمل المرشد التربوي أكد المهندس صلاح أن العملية التربوية عملية متكاملة وكل اختصاص مستقل. فكما أن هناك مدرّساً لمادة الرياضيات واللغة العربية والفلسفة يعمل كل باختصاصه، فما المانع من أن يعمل المرشد التربوي أيضاً باختصاصه دون تدخل من أحد؟ نجاح المرشد التربوي في الحد من الفوضى في المدرسة هو نجاح للجهاز الإداري أيضاً. وبالنسبة إلى علاقة الأهل مع المرشد التربوي أكد أنه لا يثق بالمرشد التربوي كي يسلّمه موضوعاً معيناً لأحد أولاده كي يحاول هذا المرشد إيجاد حل له.

محسن محمد (مدرس لغة إنكليزية)، تحدث عن دور الإرشاد التربوي داخل المدرسة وخارجها، وأضاف: في ظل ما نشهده من فورة وفوضى عارمة في الكثير من المصطلحات والمفاهيم بات من الضروري إيجاد مرشد وناصح لهذا التلميذ، ليأخذ بيده إلى بر الأمان. ومن هنا يتبلور ويتوضح دور الإرشاد النفسي، إذ يتأثر التلميذ أحياناً بمعلمه أكثر مما يتأثر بوالديه، ويستطيع أن يبني جسراً من الثقة مع معلمه أكثر من والده.فالمرشد التربوي بما تعلمه من طرق وأساليب وتحليل لنفسية التلميذ وكيفية كبح جماح رغباته ونزعاته يستطيع الوصول به إلى حيث يجب أن يصل.

بعض التلميذات تخبر المرشد التربوي عن حالات خاصة بها تعجز أن تخبر والدتها بها، وبالطبع لا يتوقف الأمر كما ذكرنا على حالات خاصة كالحب والجنس والتدخين وبعض الحالات السرية، بل يتعداها إلى مساعدة التلميذ في أموره الاجتماعية والدراسية ورفع معنوياته والقضاء على حالات القلق، وخاصة في فترة الامتحانات. وعن دور الإدارة والجهاز التدريسي في تعميق دور الإرشاد التربوي أكد الأستاذ محسن أن تدخّل الإدارة يلعب دوراً سلبياً في ذلك، ظناً منها أن هذا المرشد التربوي قد يسحب البساط من تحتها فتخسر سلطةً ومكانة وسطوة على الطلاب. أضف إلى أن المدير يعتقد أنه الأقدر على حل المشاكل، خصوصاً إذا كان من الجيل القديم. العملية تحتاج إلى جلسات حوار وتبادل أفكار ومناقشات مستفيضة كي يتوضح للجميع دور الإرشاد التربوي.. أخيراً أرى أنّ الثقة والصراحة والسرية هي من أهم عوامل نجاح الإرشاد التربوي.

جورج حداد (تلميذ في الصف العاشر)، تحدث عن أهمية المرشد التربوي في المدرسة، فهو يلجأ إليه كلما اعترضته حالة معينة. ويؤكد التلميذ أيمن أنه يثق بالمرشد التربوي أكثر مما يثق بمدير المدرسة، لأن المدير سيقوم بالاتصال بوالده لإبلاغه بالتفاصيل، وهنا ستقع الطامة الكبرى. أما المرشد التربوي فيبقي الأمر سراً بيني وبينه، ويبين لي الطريقة الصحيحة كي أتغلب على المشكلة. لا يقتصر دور المرشد التربوي على حل المشاكل الشخصية، بل يتعداه ليصل إلى الطرق الصحيحة للدراسة وتنظيم الوقت واختيار الأصدقاء وحتى ممارسة الهوايات.

آية سلمان (تلميذة في الصف الحادي عشر)، تحدثت عن أهمية دور المرشد التربوي ولكنها تثق بقدرة أهلها على حل مشاكلها. أنا أتعامل مع أهلي بكل صراحة وصدق. كان في مدرستنا مرشد تربوي وكنا نتعامل معه بأريحية ونثق به، ولكن عندما انتقل وجاءت بدلاً منه مرشدة تربوية تغير الحال ليس فقط معي أنا بل مع أكثر التلميذات، لأنها أشركت الأهل في إيجاد حلول لمشاكل كنا نتمنى لو أنها تبقى سرية بيننا وبينها. شخصية المرشد التربوي تلعب الدور الكبير في خلق الثقة بين الطالب وبينه.

عبير موسى (مرشدة تربوية)، أوضحت لنا أن التسمية الصحيحة لاختصاصها هو مرشد تربوي نفسي. منذ العام 2001 أُعطينا صلاحيات ووثائق وسجلات يُراقبها موجه الإرشاد النفسي، وتعد هذه الوثائق سريّة. فحتى أغلب الحالات يتم ترميزها دون ذكر اسم صاحبها بشكل صحيح. الإرشاد المدرسي التربوي هو مساعدة الطالب عن طريق تقديم حلول أو طريقة لإرشاده كي يفهم ذاته وقدراته وإمكاناته، ثم توجيهه للحل كي يحقق التوافق النفسي والمهني والاجتماعي بشكل عام في المدرسة أو المنزل أو الشارع، وحتى في أي مكان. هذا المرشد يجب أن يكون مؤهلاً ومدرّباً، ولا يجوز لأي مدرّس من خارج الاختصاص أن يمارس الإرشاد بشكل عشوائي.

في الظروف الحالية يجب أن يكون المرشد على تواصل دائم مع الأهل، وهنا يجب التركيز على الدور المتكامل للأهل والكادر التدريسي والمرشد التربوي بحيث تبدأ المراقبة عن بُعد من سن الثانية عشرة وما فوق. طالبنا بتخصيص حصة للإرشاد التربوي ولكن دون جدوى وهنا، وجدنا في ساعات الفراغ (الناتجة عن غياب مدرس/ـة) فرصة للدخول في عالم التلاميذ بحثاً عن حلول لمشاكلهم. يجب أن تكون المواضيع التي تناقش في حصة الفراغ هادفة وشيقة وتلقى قبولاً لدى التلاميذ. لدينا سجلات ووثائق، منها سجل التوجيه خلال حصة الفراغ- التقرير الشهري- سجل التعرّف على المستوى التحصيلي- تسجيل الحالات الفردية- بطاقة التلميذ الإرشادية- سجل الاتصال بالأهل- سجل رعاية الطلاب المتفوقين- سجل الرعاية لطالب متسرّب – سجل الرعاية الفردية لتلميذ متأخر دراسياً.. سجل تلميذ معوق- سجل الغياب المتكرر- سجل زيارات أولياء الأمور.. إلخ.

وعن سؤال عن تعاون الجهاز الإداري والتدريسي مع المرشدة التربوية عبير موسى أكدت أنها تنقلت في أكثر من محافظة وقد تفاوتت درجة التعاون، فمنهم من يساعدنا في عملنا، ومنهم من يخضع لقناعات مختلفة، خصوصاً أصحاب الشهادات القديمة. وقد يعود السبب لظن المدير أن المرشد ينافسه على حصرية القرار في المدرسة. وأتعامل مع حالة كهذه بكل جرأة. هناك بطاقة يمكن رفعها ضد كل مدرّس يمارس العنف المعنوي أو الجسدي ضد الطالب، ولكن أحاول أن أكون مرنة مع زملائي كي يكتشفوا صوابية مواقفنا. برأيي يجب إقامة دورات إرشاد نفسي للمدرسين أيضاً خصوصاً للإداريين والموجهين. أنا ضد العنف والضرب لكن البديل لذلك لم يكن كافياً، لأن مدارسنا ليست نموذجية ولدي قناعة بالأنشطة اللاصفية كالرحلات والفنون والرياضة والرسم، وما نسميه في علم النفس السيكو دراما، إذ يمكن تطبيقها من خلال مسرحيات صغيرة لكنها هادفة. وقد جربت ذلك وكانت لها نتائج جميلة.

وعن الدورات الصيفية التعليمية التي يختصر فيها إعطاء المنهاج بشهر أو شهرين على أبعد تقدير، أكدت الآنسة عبير أن ذلك يمثل كارثة حقيقية بالنسبة للتلميذ.

أخيراً: على المرشد التربوي أن يثقف نفسه بشكل دائم، ويبتكر أفضل الطرق لمد جسور الثقة مع التلميذ. وعلى الأهل والجهاز التدريسي والإداري أن يكونوا عوناً له في سبيل إيجاد حلول مناسبة تضمن استقرار الطالب نفسياً وجسدياً وإعداده بشكل جيد ليتمكن من بناء المستقبل المشرق لنفسه ولوطنه!


صحيفة النور السورية، العدد 548


شارك المقال مع أصدقاءك..
Top