مدارس أبناء الشهداء: انطوائية وهروب وانتحار

لوقت طويل بقيت مدارس أبناء الشهداء حصناً أمام الإعلام السوري العام والخاص، خوفاً من أذرع السلطة التي اعتبرتها "ملكية خاصة" يمنع على أحد كشف فسادها، رغم أن من فيها هم أبناؤنا وبناتنا. فقد أثبتت هذه الحرب الطويلة الطاحنة منذ 2011 حتى اليوم أن الشهداء هم فقراء وشرفاء هذا الشعب، وليس "المسؤولين" وابناؤهم الذين على شاكلتهم: لا هم لهم سوى النهب والسلب والاستزلام!

لكن الصجفية لودي علي كسرت هذا الحصار ونشرت تحقيقاً مهما في صحيفة "الأيام" السورية، أظهرت فيه حقيقة أن هذه المدارس تحولت إلى "معسكرات اعتقال" تعج بالامراض النفسية والجسدية، دون أن يهتم أحداً بهم!

"تركت حنين منزل عائلتها الدافئ، تاركة وراءها أب شهيد وأم تئن تحت جراح الفقد والحاجة، حنين البنت الصغرى لعائلتها فتحت عيونها بعد صدمة فقد الأب لتجد نفسها في مدرسة بنات الشهداء بين مئات الفتيات الأخريات اللواتي سرقت الحرب آبائهن أيضاً… وعندما بلغت 16 عاماً وبعد أكثر من ثلاث سنوات على وجودها في المدرسة، لم تستطع تلك الصبية الصغيرة أن تتأقلم مع حياتها الجديدة فحاولت الانتحار مرة بقطع أوردتها للضغط على أمها وإخراجها من المدرسة، ولكنها لم تنجح لا في الانتحار ولا في الخروج من المدرسة، وبعد عدة أشهر تمكنت حنين من الهروب خارجا… فصلت بعدها من المدرسة، إلى أن عادت الإدارة عن قرارها واستقبلتها مجدداً، رأفة بحال عائلتها المادي الصعب الذي لا يمكن أن يؤمن لها حياة كريمة" قالت الصحفية لودي علي في تحقيقها.

وأكدت أن حنين ليست الأولى، بل إن ثلاث حالات أخرى تحققت منها حاولن الإنتحار بقطع الوريد! وغيرهن حاولن الهروب بكل السبل رغم الحراسة المشددة على أبواب المدرسة.

هذه المدارس اكتظت بالعدد بسبب الحرب الراهنة ضد إرهاب الإسلام السياسي المسلح، (فهناك إرهاب آخر يمارسه الإسلام السياسي غير المسلح، والمتحالف مع النظام، والذي يعمل على تدمير مستقبل سورية بكل الوسائل تحت مسمى "الإسلام الشامي المعتدل"!)،

لودي علي قالت في تحقيقها أن هناك نقص شديد في المشرفين النفسيين، فقد يصل عدد الطلاب إلى 40 طالب بإشراف مشرف واحد! إضافة إلى أن تواجدهم هو فقط في الصباح.

ابنة الشهيد "أبو يعرب" الذي عرفه السوريون جميعاً عندما قضى دفاعاً عن جسر الشغور، "تجلس وحدها انطوائية حزينة لا تكلم أحدا"، أم "ب.ح" فتعاني من السلس البولي بعد أن شاهدت أباها يتعرض للتعذيب في فيديوهات ثورة الأخونج!

إحدى المشرفات في المدرسة قالت للصحفية لودي أن "أغلب حالات الهروب تعرف فيها المدرسة قبل حدوثها، نتيجة حديث الطالبة عن الموضوع، ويتم تبليغ الأهل والاقتراح عليهم بسحب الطالبة من المدرسة لكنهم في كثير من الأحيان لا يستجيبوا… وأغلب اللواتي تكون حالتهن في المنزل غير مستقرة كوفاة الأم أو زواجها"، ونقلت لودي عن المشرفة أن هناك "حالات أخرى هي تعذيب الطالبات لأنفسهن بجرح أيديهن مثلا، وهذه حالات غير قليلة".

شهيرة فلوح، المشرفة "التاريخية" على مدارس أبناء وبنات الشهداء، اعترفت أن "النظام الداخلي في المدارس بشكل عام نظام صعب على الطلاب"، حسب التحقيق الذي نشرته صحيفة الأيام، لكنها أكدت أن الكادر يعمل على "تخفيف الضغط عن أبنائنا ونقلهم من جو الحزن والتعب إلى الفرح والتفاؤل".

فلوح أشارت إلى أن "في المدرسة كفاية من كل شي، مستلزمات ومستوصف ومنامة وطعام جيد"، وما يمر علينا من حالات نفسية ضمن حدود الطبيعي خاصة في المرحلة الحالية، فسابقاً كانت الحرب حرب جبهات ولا يسمع الأطفال عن الإرهاب الذي تعرض له آباؤهم، اليوم نعيش حرب شوارع وإرهابا وقصصا مؤلمة، تترك أبناء الشهداء بحالة نفسية صعبة وتزيد صعوبتها مع أم بعيدة، والمهمة الملقاة على عاتقنا ليست سهلة على الإطلاق"، لكنها أنكرت أن تكون في المدارس حالات أو محاولات انتحار.

فلوح قالت أيضاً أن المدارس اكتظت و"لم يعد يمكننا استيعاب أعدادا إضافية".

تابعت لودي علي تغطية جوانب القضية بالحديث عن أبناء الشهداء الذين لم يحظوا بامتياز أن يكونوا في هذه المدارس، مشيرة إلى أن المدرسة تصرف ما لا يقل عن 20 ألف ليرة شهرياً على كل طالب للملابس الداخلية والخارجية وملابس النوم والرياضة والمدرسة، إلى جانب الطعام والطبابة، وفوقها راتب شهري "2000 ليرة مصروف جيب"، أما أولئك الذين بقيوا خارج المدرسة، فيتلقون 20 ألف ليرة سورية عن السنة كلها، دون تأمين أي شيء آخر له!

وتساءلت: "مدارس أبناء الشهداء اليوم لا تتسع إلا لقلة منهم، فمن المسؤول عن تأمين من تبقى من أبناء الشهداء خاصة مع الظروف المعيشية، وهل سنقابل من رخّص دمه لأجلنا بأن نترك أولاده دون أبسط رعاية؟".

كما أشارت إلى القرار الذي يفرض على المدارس الخاصة تخصيص 5 % من مقاعدها لأبناء الشهداء بالمجان. لكن القسم الأكبر من أبناء الشهداء بقي دون رعاية. فبشرى جوهرة، وهي زوجة شهيد وأم لأربعة من أبنائهما، أكدت أنها لم تستطع الاستفادة من القرار، ففي مدينة اللاذقية وحدها أكثر من 1800 طلب مرفوض لعائلات تريد أن يدرس أبناؤها في المدارس الخاصة! الأمر الذي جعل أبناء الشهداء يشعرون بالظلم وكأن أباءهم غير متساويين في الدم الذي بذلوه!

السيدة بشرى ترى أن تخصيص مدرسة من مدارس الدولة في كل مدينة لأبناء الشهداء هو الحل، على أن "يتم إعادة تأهيلها ورفدها بالتجهيزات المطلوبة، من دون أن تكون مدارس داخلية، فمن الممكن أن تستقبل الطفل حتى بعد الظهر وتتركه يعود إلى أمه يومياً، لأن وضع أبناء الشهداء في مدارس داخلية ظلم، فالطفل الذي فقد أباه وأبعد عن حضن أمه سيتأثر حتماً من وجهة نظرها، وفي الوقت نفسه كي تشعر الأم أنه ليس عليها التخلي تماما عن تربية أولادها حتى يتم الاهتمام بهم".

وتلفت الانتباه إلى أمر مهم في اقتراحها: "من السليم أن يوضع الطفل في مدرسة يتشاركها مع أطفال يعيشون حالة الفقد نفسها، لكن بظروف أفضل وأقل ضررا على صحته النفسية، مشيرة إلى أن الوضع الحالي جعل من ذوي الشهداء يخجلون من التصريح والفخر باستشهاد ذويهم، لأنهم تحولوا إلى سلعة للشحادة بدلا من أن يُقدم لهم ما يحتاجونه، على أنه تكريم وميزة لا ذل وشحادة".


"لم نصن الأمانة"، ختمت لودي علي تحقيقها الطويل، فـ"الشهيد المقدس الذي لم يبخل علينا بأغلى ما يملك "الروح"، بخلنا عليه اليوم بعدم إنصاف أبنائه، بدلا من تكريمهم وتعزيزهم، فقد استودعهم عندنا أمانة ولكننا لم نصنها ولم نحافظ عليها. فعندما نتغاضى عن وضعهم وأوجاعهم، نشارك في جريمة عدم تعويضهم بالحد الأدنى عن فقدان الأب الذي استشهد لنحيا".

الجدير بالذكر أن السلطات السورية سارعت إلى مصادرة عدد صحيفة الأيام الذي تضمن هذا التحقيق، ومنعت توزيعه في الأسواق، في محاولة يائسة للتستر على واقع يمس أبناؤنا وبناتنا، وليس أبناء وبنات المسؤولين في تلك السلطات، والذين بقيوا "مصانين" خارج أتون الحرب!


إعداد: مرصد نساء سورية


شارك المقال مع أصدقاءك..
Top