التغيير الاقتصادي ليبرالياً... نظريات متينة وإسقاطات هشة

يحاول كتاب "البنى الليبرالية النظرية للتغيير الاقتصادي" لمؤلفه أيهم أسد أن يكشف عن المرجعيات الليبرالية النظرية الأساسية التي يقوم عليها أي تغيير اقتصادي في أي من المجتمعات، بالإضافة إلى كشفه ماهية السياسات الاقتصادية الكلية التي يتبعها الفكر الاقتصادي لإدارة التغيير المنشود محلياً، أو لتسويق تلك السياسات عالمياً، بوصفها سياسات الحل الأمثل للانتقال نحو اقتصاد أكثر تطوراً وانفتاحاً وفائدة،

ويعتقد المؤلف أن عقيدة السوق، وسياسات اقتصاد العرض، وسياسات المنهج النقدي بكل ما تحمله من أفكار هي البنى الرئيسية المولدة للتغير الاقتصادي.

ويجادل الكتاب بأن تلك البنى التحررية في جوهرها والمتداخلة مع بعضها البعض فكرياً، والمندمجة بقوة في النظرية الاقتصادية العامة هي نتاج لمراكز النظام الرأسمالي العالمي طورتها خلال مراحل تاريخية مختلفة تبعاً للحاجة لها، أو رداً منها على نظريات لم تعد مناسبة لظروفها، لكن المراكز الرأسمالية لم تكتفي بإسقاط تلك البنى على مجتمعاتها فحسب، بل كانت وما تزال تسعى لتعميمها على باقي أجزاء المنظومة الاقتصادية العالمية بهدف تعميم المرجعية الفكرية للتغيير على مستوى العالم كما يعتقد مؤلف الكتاب.

يعالج الكتاب في فصله الأول مفهوم "عقيدة السوق" بوصفها إحدى البنى الرئيسية للتغير الاقتصادي، وأهم المرتكزات الليبرالية الاقتصادية وأقدمها، ويطرح النظريات المرجعية الأساسية حول حرية الأسواق محللاً الانقسام التاريخي الموجود حتى اليوم بين نظريات تؤيد ترك الأسواق تعمل بحرية تامة دون قيود أو شروط وفق منظور اقتصادي ليبرالي صرف، ونظريات تدعو لضرورة ضبط الأسواق والتدخل في عملها تبعاً لمنظور ليبرالي تدخلي، وكاشفاً عن الحجج النظرية التي تقدمها كل نظرية للدفاع عن وجهة نظرها، ويستنتج المؤلف في النهاية أن شكل واتجاه ونتائج العلاقة بين الليبرالية الاقتصادية والمجتمع الذي تعمل فيه تحدده متغيرات مثل البنى والتركيبة السياسية للدولة، والبنية الحقوقية والتشريعية لها، وبنية سياسات توزيع الدخل، والفلسفة الاقتصادية والنهج التنموي لها، وبنية الاقتصاد الدولي والاندماج فيه، بالإضافة إلى أن التجربة التاريخية لتطبيق عقيدة السوق لم تفضي إلى نتائج ايجابية دائماً.

ينتقل الكتاب فيما بعد للحديث عن بنية "سياسات اقتصاد العرض" التي تنتمي إلى حركة فكرية واسعة النطاق تستمد أسسها النظرية من الليبرالية الصرفة المحافظة، وقد جاءت تلك السياسات التغييرية رداً على الفكر التدخلي الكينزي في الاقتصاد الرأسمالي بعد منتصف سبعينيات القرن المنصرم، وأعتقدت بأن حل المشكلات الاقتصادية كافة يكمن في التركيز على جانب العرض وليس في التركيز على جانب الطلب، وطالبت بذلك بالمزيد من حرية السوق، وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد، وفتح الأسواق الخارجية، وتحديد الأجور، وتخفيض الضرائب على قطاع الأعمال وغيرها من السياسات التي تصب في اتجاه تشجيع الإنتاج فقط، لكن ذلك المنهج تعرض لانتقادات كثيرة، ولم تؤيده التجربة الاقتصادية الواقعية وتحديداً في مراكز النظام الرأسمالي التي أنتجته، وخاصة أن نتائج الكثير من السياسات التي حاجج بها اقتصاديو العرض جاءت بنتائج معاكسة تماماً لما طرحوه.

ويعطي "المنهج النقدي" أهمية كبيرة للنقود على المديين القصير والطويل في التغيير الاقتصادي، كونها تؤثر على الناتج المحلي الإجمالي وعلى مستويات الأسعار، ومعدلات التضخم، والبطالة، كما طالب النقديون بضرورة كبح جماح الدولة الاقتصادي، وخاصة من جهة تقليص الإنفاق العام والتشغيل، وطالبو بضرورة تحرير سوق العمل من أي قيود وترك الأجور تتوازن عند المستويات التي تحددها السوق وما إلى هنالك من سياسات كثيرة معتقدين أنها ستؤدي إلى تغيير اقتصادي واجتماعي أفضل في المجتمع، لكن تلك السياسات أيضاً لم يكتب لها التوفيق العملي كما كانت تعتقد، وتعرضت لامتحانات اقتصادية عملية أثبتت قصورها التطبيقي رغم تماسكها الفكري، وعزوف الفكر الاقتصادي عن استخدامها لوحدها كأداة للتغيير.

وبعد عرضه للبنى الرئيسية الثلاث للتغيير الاقتصادي، ينتقل الكاتب إلى شرح وتوضيح كيف استفادت المؤسسات المالية الدولية الرئيسية في العالم من تلك البنى، وتحديداً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من خلال إدخال ودمج السياسات التي أقرتها كل من بنية عقيدة السوق، واقتصاد العرض، والمنهج النقدي في برامج التثبيت الاقتصادي والتكييف الهيكلي المفروضة على الكثير من دول العالم لإدارة التحولات الاقتصادية فيها، ويوضح المؤلف بنوع من التفصيل المرتكزات الفكرية والسياسات الجزئية والكلية لبرنامجي التكييف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي، والأهداف المتوقعة من تطبيق سياسات تلك البرامج، بالإضافة إلى الانتقادات التي وجهت لها وخاصة أنها لم تحقق النتائج المرجوة منها، بل كان لها نتائج عكسية تماماً على المجتمع حسب ما يوضح الكتاب.

كتاب "البنى الليبرالية النظرية للتغيير الاقتصادي" من إصدار دار "نون4" (سورية، حلب)، وصدرت طبعته الأولى عام 2011، ويقع الكتاب في 130 صفحة من القطع المتوسط، وهو الكتاب الثالث للمؤلف بعد كتاب "تفكيك العولمة" الصادر عام 2008 وكتاب "نقد اندماج الاقتصادات العربية" الصادر عام 2009.


نساء سورية، (التغيير الاقتصادي ليبرالياً... نظريات متينة وإسقاطات هشة)

خاص: مرصد نساء سورية

شارك المقال مع أصدقاءك..
Top