في سورية: الطائفية "مقدسة".. وفضحها خيانة!

يشعر المرء أحياناً أن كثرة الأمور الأساسية المتعلقة بموضوع واحد تجعل من الصعب جداً ترتيبها حسب الأهمية، فقد كان موضوع هذا المقال أمر آخر يتعلق بالحرية والمواطنة، لكن استحالة الحديث عن ذلك من دون الحديث عن الطائفية، وخوف وسائل الإعلام القديم من تسمية الطوائف بأسمائها وتوصيف أفعالها بكلمات بسيطة ودقيقة، دفعني إلى التغيير، آملاً أن هذه الصحيفة "الأيام" التي صارت اليوم الصوت الأقوى في مواجهة طغيان السلطات التنفيذية والدينية وحتى "التجارية"، ستتجاوز الخوف الذي يعمّ جميع وسائل الإعلام الأخرى منذ دهر، الخوف من "سيف الرقابة" الأعمى البتّار والذي يستخدم قانوناً غامضاً يسمى "قانون الإعلام" مستنداً له.

في موضوعنا هذا، (الطائفية مقدسة في سورية)، أمر تنكره الأغلبية الساحقة من الناس بمختلف مواقعهم، فالوهم الذي كرسناه عبر عقود تحت مسميات "الفسيفساء السورية" و"التعايش والتسامح" فعلت فعلها في تسطيح عقلنا وإغراقنا في مستنقع الوهم.

أليس الدستور "مقدساً"، بمعنى أنه الأب الروحي والبيولوجي لجميع القوانين التي تنظم حياتنا؟ بلى! .. والدستور يكرّس صراحة الطائفية… فهو يقول بأن كل من ليس مسلما لا يحق له أن يكون، ومهما كانت كفاءته، رئيساً للجمهورية!.. ويسمي صراحة الإسلام، في البند الثاني من المادة الثالثة، بصفته مصدراً رئيسياً للتشريع، متجاهلاً تسمية باقي المصادر في رفض مضمن لمرجعيتها، كالمسيحية واليهودية والبوذية والعلمانية و…

بل يمنح الطوائف حقوقاً طائفية على السوريين بقوله حرفياً، في البند الرابع من المادة الثالثة: "الأحوال الشخصية للطوائف الدينية مصونة ومرعية". وكما نعرف فإن "الأحوال الشخصية"، أي تنظيم الزواج والطلاق، والحقوق والواجبات المترتبة على كل منهما، ضمناً العلاقة مع الأطفال الناتجين عن الزواج، هي أساس وجودنا الاجتماعي منذ ما قبل التاريخ المعروف. ورغم أن الدستور ينص على "حرية الاعتقاد"، فإن البندين الثاني والرابع المذكورين أعلاه يدمران هذه الحرية تدميراً شديداً فلا يبقيان على أثر منها فيما يتعلق بـ "الاعتقاد الديني". بالأحرى: يصفّ إلى جانب "طائفة" دينية واحدة ويدافع عنها ويحميها ضد كل الطوائف الباقية. لماذا؟ لأن "الفقه الإسلامي" يقر ويشجع بل ويدعو معتنقي جميع الأديان والمعتقدات الأخرى إلى الإسلام، وتسمح القوانين السورية بذلك، فيما يجرّم ويعاقب بشدة تصل ِإلى القتل كل من ولد/ت لأب "مسلم" وأراد أن يمارس تلك "الحرية" باعتناق المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الإلحاد!

هناك الكثير من البراهين على حقيقة أننا بلد ديني-طائفي يكرس هويته هذه في الدستور والقوانين والتعليمات التنفيذية للقوانين، إضافة إلى جملة من "القواعد والأعراف" التي اكتسبت "قوة القانون"…

لكننا لن نستطيع الحديث عنها هنا، لسبب عملي وبسيط: سيكون حجة كافية ليقوم بعض الذين "احمرت عيونهم" من جرأة "الأيام" وإصرارها على تقديم الحقائق للناس، كي يغلقوها بجرة قلم، ويلغوا ترخصيها، بل ويجرجروا أصحابها ومحرريها إلى "بيت خالتهم"!

وهذا هو الشطر الثاني من العنوان، فتلك الطائفية المصانة في "أبو القوانين" ومرجعيتها، وفي القوانين وشروحاتها، هي نفسها التي يعدّ الحديث عنها "جريمة" في قوانين أخرى صيغت بدقة متناهية لتكون "الكلبشة" المتينة بيد السلطات المذكورة، التنفيذية والدينية، والكفيلة بقطع لسان كل من من يتجرأ على فضحها!

البند الأول من المادة 12 من قانون الإعلام الصادر عام 2011 ينص على: "يحظّر على الوسائل الإعلامية نشر:

1- أي محتوى من شأنه المساس بالوحدة الوطنية والأمن الوطني أو الإساءة إلى الديانات السماوية، والمعتقدات الدينية، أو إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية"!.. تبدو الصياغة بريئة وإيجابية في حماية المجتمع من "النعرات الطائفية أو المذهبية"! وهي حماية تطلبها كل المجتمعات وتحتاجها.

وطبعاً لن نناقش هنا إثارة النعرات الطائفية والمذهبية معاً، التي تعج بها الكتب المدرسية، والمناهج الجامعية، وكلية الشريعة، و"المدارس الدينية" لجميع الطوائف، والتلفزيون والإذاعة السوريتان، ومنشورات وزارة الأوقاف، والخطب الدينية الإسلامية والمسيحية، و…

بل سنكتفي بالقول: هذه الصياغة "البريئة" لا تتضمن، لا هي ولا القانون كله ولا تعليماته التنفيذية ولا شروحاته… أي "تحديد" لما تعنيه "إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية"!

فأن تسمي الطوائف بأسمائها قد يكون "إثارة" لتلك النعرات! وأن تفضح ما يفعله الدستور والقوانين في الحفاظ على تمزيق المجتمع دينياً وطائفياً ومذهبياً… قد يكون كذلك! وأن تهاجم ما تفعله هذه الطائفة أو تلك ويهدم المواطنة قد يكون كذلك! وبالتأكيد: أن تفضح "فقها" (إسلامياً أو غيره) طائفيا بامتياز… هو كذلك!.. وهذه الـ "قد" هي ببساطة "الشعرة" التي تمسك "السيف" معلقاً فوق رقاب الإعلام والإعلاميين. وهي شعرة يمسكها، بالضبط، أصحاب السلطتين التنفيذية والدينية!

ولا يمكنك أن تقول كلاماً مفيداً، لا هراء منظماً عن "التعايش" و"التسامح" و"الفسيفساء" التي تكشفت عبر سنوات ثمانية ماضية بكل صفاقة عن "غيلان" و"سفاحين" و"خونة" و"مجرمين"… لا يمكنك أن تقول كلاماً مفيداً من دون أن تسمي الطوائف وتسمي وتصف ما يجعلها فعلاً "فوق الوطن" وما يمنع الناس من التحرر من سجون الطائفية إلى فضاء المواطنة.

فلا يمكنك أن تفضح الطائفية وتحاربها فكرياً ومعرفياً دون عقاب. لأن قانون الإعلام هذا كفيل بإغلاق فمك وقطع لسانك… إن قرر "سيد" في أي من السلطتين أن كلامك "لا يعجبه"! فإن لم يعجبه صار "إثارة للنعرات الطائفية والمذهبية" معاً.

إذاً، كيف يمكن أن نحارب وحشاً مصاص دماء، لم يشبع من دمائنا منذ أكثر من ألفي سنة، فيما نحن نقدسه ونحميه في دستورنا وقوانيننا؟

لا يمكن! في الواقع ليس لدينا سوى أحد خيارين:

إما أن تكون "لا طائفياً" وتفضح كل ذلك، منتظراً أن يقطع ذلك السيف رقبتك. أو أن تصمت (أو تقول هراء)، فتكون طائفياً كما يراد لك أن تكون.

ملاحظة: البعض سيذهب سريعاً للقول: وهل تريد أن تحذف هذه المادة فتبقي مجتمعنا عارياً بوجه إثارة تلك النعرات؟

والجواب الذي يمكن اختصاره بجملة واحدة، هو: يحتاج الأمر لأحمق حتى يستنتج ذلك، فالمطلوب هو تحديد هذه "الإثارة" بشكل بسيط وواضح، كما فعل البند الثاني من المادة 12 نفسها من قانون الإعلام. فالبند ينص على: يحظّر على الوسائل الإعلامية نشر… "أي محتوى من شأنه التحريض على ارتكاب الجرائم وأعمال العنف والإرهاب أو التحريض على الكراهية والعنصرية"، ويكفي أن يضاف إلى نهايتها "والطائفية".

فالتحريض على الطائفية هو الذي يجب أن يجرّم، لا فضحها وكشف انحطاطها وتدمير سلطاتها… وإقامة وطن المواطنة والإنسان على أنقاضها.


بسام القاضي، صحيفة "الأيام" السورية، 28/10/2018


شارك المقال مع أصدقاءك..
Top