"طبائع الاستبداد": حين يعيش الناس بشرا لا شعوبا

ارتقى الملك لبت – عشتار عرش مدينة إيسين السومرية عام 1850ق.م، واشتهر بنزعته الإصلاحية وشريعته المكتوبة التي صاغها نزولا عند رغبة "الآلهة"، يقول الملك: "إن الآلهة قد منحته حكم بلاد سومر وآكاد ليوطد الأمن والرخاء لأهلها، وهو من أجل ذلك قد سنّ قوانينه التي حررت أبناء سومر وآكاد من العبودية التي فرضت عليهم قبله".

ولد عبد الرحمن الكواكبي عام 1271 هـ – 1854 م لأسرة عربية قديمة في مدينة حلب، تلقى علومه في المدرسة الكواكبية وعمل في الصحافة والمحاماة والتجارة كما تولى بعض المناصب الرسمية، تعرض للاضطهاد وسجن، هاجر من حلب وطاف الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا والهند والشرق الأقصى ثم استقر في مصر ومات فيها مسموما، ألف العديد من الكتب: طبائع الاستبداد – أم القرى – العظمة لله – صحائف قريش، كما فقد مخطوطين مع جملة أوراقه ومذكراته ليلة وفاته.

توطئة
 إن العالم اليوم فيه من طبائع الاستبداد مشارب عدّة وفيه من أنماط العبودية مصارع شتّى، قد يكون المستبد فردا أو جماعة، فكرا أو منهجا، حزبا أو دولة، حاكما أو مجموعة متحكمّة، هذا الذي نحن عليه هو ما دعاني للغوص في بحر هذا الكتاب واستخلاص منه بعض نفيسه وعرضه موجزا للقاريء اللبيب.

مقدمة الكتاب:
 يقول الكواكبي ما معناه: "إن سبب انحطاط المسألة الاجتماعية وأصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية"، ويقول: "إن السياسة علم واسع جدا يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك به". ثم يذكر الكواكبي مسيرة هذا العلم عبر الأقدمين وكانت على شكل إما مؤلفات سياسية أخلاقية مثل كليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس أو محررات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج. ثم يذكر مباحث القرون الوسطى التي كانت حصرا لعلماء الإسلام إما فرسا ممزوجا بالأخلاق كالرازي والطوسي والغزالي أو عربا ممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي أو عند المغاربة ممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة. ثم يشيد بالمتأخرين من أهل أوروبا وأمريكا الذين توسعوا في مباحثهم وفنّدوا علم السياسة إلى سياسة عمومية، وخارجية واقتصادية وإدارية وغيرها ويعود ليذكر المتأخرين من أهل الشرق منهم الترك كأحمد جودة باشا، وكمال باشا، وسليمان باشا، ومن العرب كرفاعة بك، وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني.
يعرّف الكواكبي علم الساسة قائلا: "إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، وعليه يكون أول مباحث السياسة وأهمها بحث " لاستبداد" أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى.

يطرح في بداية البحث مجموعة أسئلة يحاول الإجابة عليها لا حقا، يسأل: "ما هو الاستبداد؟ ما سببه؟ ما سيره؟ ما إنذاره؟ ما دواؤه؟، ثم يشير إلى أن كل سؤال له فروعه فيسأل: ما طبائع الاستبداد؟ لماذا يكون المستبد شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبد؟ ما تأثير الاستبداد على الدين؟ على العلم، على العمران، على المجد، على المال، على الأخلاق، على الترقي، على التربية؟ من هم أعوان المستبد؟ هل يتحمل (بضم الياء) الاستبداد؟كيف يكون التخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟.

يقدم الكواكبي تعريفا حقوقيا للاستبداد شديد البلاغة فيقول: "إن الداء في الاستبداد هو تغلّب السلطة على الشريعة، والدواء تغلّب الشريعة على السلطة". (والشريعة بمنظورها الوضعي قد تكون هي الدستور وقوانينه الوضعية، كما قد تكون دينا سماويا، أو دستورا مصدره أو أحد مصادره دينا ما).

ما هو الاستبداد؟
"الاستبداد" لغة (معجم الرائد) هو الانفراد في الرأي والأمر واستبد بالأمر (لسان العرب) إذا انفرد به دون غيره"، ويضيف الكواكبي: "هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة"، ويراد في الاستبداد على إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها مظاهر أضراره التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة، والاستبداد في اصطلاح السياسيين هو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة (أي بمقتضى الهوى والتزاما بنزعات قد تكون عقائدية أو مذهبية أو طائفية أو حتى شخصية) وبلا خوف تبعة (أي دون محاسبة من السلطة التشريعية أو من الرأي العام ووسائل التعبير المكتوبة والمقروءة)، إن الحكومة المستبدة قد تكون على أشكال: حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل حكومة الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسئول كما وهنالك حكومة مستبدة بالكلية عندما لا رقيب عليها بالتنفيذ (السلطة التشريعية) ولا حسيب فوقها (القضاء المستقل النزيه وسيادة القانون).

إن أشد مراتب الاستبداد هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية، وكلما قل وصف من هذه الأوصاف خف الاستبداد إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسئول فعلا. إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه. ويقول: "من الأمور المقررة طبيعيا وتاريخيا أنه ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة (انخفاض مستوى تعليم الأمة والأمّية)، والجنود المنظمة (الجيش والأمن). ويحضرني قول: "أن الأزمة الثقافية في الوطن العربي مرتبطة عضويا بالأزمة الاقتصادية والقهر السياسي"، وكما لاحظنا أن جهالة الأمة ركيزة من ركائز استبداد الحكومة.

ينهي تعريفه للمستبد بالقول: "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، هو عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، هو متجاوز للحد ما لم ير حاجزا من حديد، إنه مستعد بالطبع للشر".
ينهي الفصل بقوله: "فالمستبدون يتولاهم مستبد والأحرار يتولاهم الأحرار" وهذا صريح معنى "كما تكونوا يولى عليكم"، فما أليق بالأسير في أرض أن يتحول عنها إلى حيث يملك حريته.

الاستبداد والدين
يحاول في هذا الباب دحض رأي العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، ويأخذ عليهم بناء نتيجتهم تلك على "مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين"، ويعلل ذلك بطبيعة الاستبداد والمستبد السياسي وليس بطبيعة الدين وجنوحه للاستبداد، بمعنى أن المستبد هو الذي يستعين على الرعية بالدين عندما يوظف بعض رجاله لصالحه، ويقول: "إنه ما من مستبد سياسي إلى الآن إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله، وأقل ما يعينون به الاستبداد تفريق الأمم إلى مذاهب وشيع متعادية تقاوم بعضها بعضا فتتهاتر قوة الأمة ويذهب ريحها فيخلو الجو للاستبداد ليبيض ويفرخ".

يعود ويتساءل: "من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، و أوجبو ا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كل معارضة لهم بغيا يبيح دماء المعارضين؟!. اللهم إن المستبدين وشركاؤهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلت، فلا حول ولا قوة إلا بك".
 
الاستبداد والعلم
يقول: "كما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم".
ويؤكد أن التأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى كل سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته.
ويوضّح أن ليس كل علم يخشاه المستبد، بل هنالك علوما لا يخشاها، فالمستبد لا يخشى علوم اللغة التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان (تشير التقارير إلى ارتفاع مستوى دراسة العلوم الإنسانية في الوطن العربي بالمقارنة بنسب العلوم التطبيقية والرياضيات والفيزياء)، و لا يخاف المستبد العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، كما لا يخاف العلوم الصناعية محضا لأن أهلها يكونون مسالمين صغار النفوس، صغار الهمم، كما لا يخاف الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر ". لكن من أي العلوم ترتعد فرائص المستبد؟، يقول الكواكبي: "من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخاف المستبد أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة والكتابة..." إن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة !.

إن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة، وطرادا مستمرا، يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام، ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته، حتى أن أحد المحررين السياسيين قال: "إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه".

يضع الكواكبي مقدمة عن المستبد الغربي ويصف حاله فيقول: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الاسير حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وان يعرفوا النفس وعزها، والشرف وعظمته، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وما هي وظائفها، والرحمة وما هي ذاتها...، والحاصل أنه: ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين.
 
الاستبداد والمجد
يقال أن الاستبداد أهل لكل فساد، يشرح الكواكبي كيف يغالب الاستبداد المجد ويقيم مقامه التمجيد، ويعرف المجد بقوله: "هو إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف بكل إنسان"، ويقارن بين المجد والحياة فيقول: "ولذا يزاحم المجد النفوس منزلة الحياة، والمجد مفضّل على الحياة عند الملوك والقواد وظيفة، وعند النجباء والأحرار حميّة، وحب الحياة ممتاز على المجد عند الأسراء والأذلاء طبيعة وعند الجبناء والنساء ضرورة (لا أدري لماذا أقحم النساء في هذا المقام ولعل هنالك ظروفا موضوعية في حينها ألزمته ذلك؟!)".

المجد لا ينال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة، وهو محبب للنفوس لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسر في عهد العدل لكل إنسان على حسب استعداده وهمته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظلم على حسب الإمكان، وللمجد أنواع، فمجد الكرم ببذل المال، ومجد الفضيلة ببذل العلم النافع، ومجد النبالة، ببذل النفس في سبيل نصرة الحق وهو أعلى مراتب المجد.

هذا تعريف المجد وتكوينه فما بنية التمجد ومعناه؟
التمجد خاص بالإدارات المستبدة، وهو القربى من المستبد بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالمقلبين بنحو دوق أو بارون، والمخاطبين بنحو رب العزة ورب الصولة، أو الموسومين بالنياشين أو المطوقين بالحمائل، بمعنى آخر فالتمجّد: "هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم".

المتمجدون يريدون أن يخدعوا العامة وهم مطية للعدل أنصارا للجور لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، ويتخذ المستبد منهم سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة أو مسئولية أو الدفاع عن الاستقلال، والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع والأذهان ما هي إلا تخييل وإيهام يقصد بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها حتى إنه لا يستثنى منها الدفاع عن الاستقلال، لأنه ما الفرق على أمة مأسورة لزيد أو عمرو؟ وما مثلها إلا الدابة التي لا يرحمها راكب مطمئن، مالكا كان أو غاصبا.

يجزم الكواكبي أن دولة المستبد دولة بله وأوغاد، لكنه يستطرد بقوله: "قد يجرب المستبد أحيانا في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء اغترارا بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعون بدهائهم، فهو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يبادر لإبعادهم أو التنكيل بهم، ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا اثنين: الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.
ويقول: "إن وزير المستبد، هو وزير المستبد، لا وزير الأمة كما في الحكومات الدستورية، كذلك القائد يحمل سيف المستبد ليغمده في الرقاب بأمر المستبد لا بأمر الأمة".
النتيجة هي: "المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين، والأمة، أي أمة كانت، ليس لها من يحك جلدها إلا ظفرها، ولا يقودها (إلى المجد) إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات".
 
الاستبداد والمال
الاستبداد لو كان رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة، وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمّي الضّر وخالي الذل، وابني الفقر وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال".

يعرض الكواكبي لمحة تاريخية عن الاستبداد والإنسان ويقول: "في عالم الحيوان، عدا أنثى العنكبوت، النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضا..، والإنسان أكل الإنسان، عاش دهرا طويلا يتلذذ بلحم الإنسان ويتلمّظ بدمائه، ثم أبطل حكماء الصين والهند أكل اللحم كليا سدا للباب، ثم جازت بعض الشرائع أكل لحم الإنسان الأسير فقط، ثم جاء من يقول يؤكل إن كان قربانا للنار، وهكذا تدرج النهي عن أكل لحم الإنسان لينتهي بالاستعاضة عنه بلحم حيوان كما جاء في قصة إبراهيم عليه السلام".

أما الاستبداد المشئوم فإنه يأكل لحم الإنسان نيئا بل تفنن بالظلم...، وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في الاستبداد والظلم وفي نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل.
يعرّف المال بالقول: "المال عند الاقتصاديين ما ينتفع به الناس، وعند الحقوقيين ما يجري به المنع والبذل، وعند السياسيين ما تستعاض به القوة، وعند الأخلاقيين ما تحفظ به الحياة الشريفة". إن المقصود بالمال هو أحد اثنين لا ثالث لهما وهما: تحصيل لذة أو دفع ألم، وفيهما تنحصر كل مقاصد الإنسان، وعليهما مبنى أحكام الشرائع كلها، والحاكم المعتدل في طيّب المال وخبيثه هو الوجدان، فالوجدان خيّر بين المال الحلال والمال الحرام....، ومن طبائع الاستبداد أنه لا يظهر فيه أثر فقر الأمة ظهورا بيّنا إلا فجأة قريب قضاء الاستبداد نحبه، وذلك أن الناس يقتصدون في النسل، وتكثر وفياتهم، ويكثر تغرّبهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب فتتقلص الثروة وتكثر النقود في الأيدي. وبئست من ثروة ونقود تشبه نشوة المذبوح.

إن حفظ المال في عهد المستبد أصعب من كسبه، ولهذا ورد في أمثال الأسراء في زمن الاستبداد، أن حفظ درهم من الذهب يحتاج لقنطار من العقل، وأن العاقل من يخفي ذهبه وذهابه ومذهبه، وأن أسعد الناس الصعلوك الذي لا يعرف الحكام ولا يعرفونه.

من طبائع الاستبداد أن الأغنياء أعداؤه فكرا وأوتاده عملا، فهم ربائط المستبد يذلهم فيئنون، ويستدرهم فيحنون، أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة ونذالة، خوف البغاث من العقاب، وقد يبلغ فساد الأخلاق في الفقراء أن يسرّهم فعلا رضاء المستبد عنهم بأي وجه كان رضاؤه...، لقد مضى مجد الرجال وجاء مجد المال.

الاستبداد عهد أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء و الفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجلهم الموت فيحسدهم الأحياء.

الاستبداد والأخلاق
يسلب الاستبداد الراحة الفكرية، فيضني الأجسام فوق ضناها بالشقاء، فتمرض العقول ويختل الشعور على درجات متفاوتة في الناس، ولهذا فإن الاستبداد يستولي على تلك العقول الضعيفة للعامة فضلا عن الأجسام فيفسدها كما يريد ويتغلب على تلك الأذهان الضئيلة فيشوش فيها الحقائق بل البديهيات كما يهوى، فترى أنه قد قبل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقّه مطيع، والمشتكي المتظلّم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح أمين، وقد اتبع الناس الاستبداد في تسمية النصح فضولا، والغيرة عداوة، والشهامة عتوّا، والحمية حماقة، والرحمة مرضا، كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة والتبجيل كياسة والدناءة لطفا والنذالة دماثة.
قد يرى بعض الناس أن للاستبداد حسنات، لكن هيهات منه ذلك: "يقولون أن الاستبداد يربي النفوس على الاعتدال والوقوف عند الحدود، والحق أن ليس هناك غير انكماش وتقهقر، ويقولون أن الاستبداد يقلل الفسق والفجور، والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة ودين، ويقولون أنه يقلل التعديات والجرائم، والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها فيقل تعديدها لا عدادها....".

 إن أقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان.

لا تكون الأخلاق أخلاقا ما لم تكن ملكة مطردة على قانون فطري تقتضيه أولا وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانيا وظيفته نحو عائلته، وثالثا وظيفته نحو قومه، ورابعا وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمى عند الناس بـ "الناموس"، ومن أين لأسير الاستبداد أن يكون صاحب ناموس، وهو كالحيوان المملوك العنان لا نظام له ولا إرادة، وما هي الإرادة؟، هي أم الأخلاق، هي تلك الصفة التي تفصل بين الحيوان والنبات في تعريفه أنه متحرك بالإرادة (وهو يقول أن الشعب في ظل الاستبداد هو شعب مستنبت لا نظام له ولا إرادة). إن أقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكرات أي حراسة النظام الاجتماعي العام، ففي الإدارة المستبدة تكون هذه الوظيفة غير مقدور عليها لغير ذوي المنعة من الغيورين، وقليل هم، وقليلا ما يفعلون، وقليلا ما يفيد نهيهم. أما في الإدارة الحرة، فيمكن لكل غيّور على نظام قومه أن يقوم به بأمان وإخلاص وأن يوجّه سهام قوارصه إلى الضعفاء والأقوياء على حد سواء.

إن الأخلاق أثمار، بذرتها الوراثة، وتربتها التربية، وسقياها العلم، والقائمون عليها هم رجال الحكومة.

الاستبداد والتربية
 يقول الكواكبي: "خلق الله في الإنسان استعدادا للصلاح واستعدادا للفساد، والإنسان لا حدّ لغاياته رقيا أو انحطاطا". يعتقد أن الإنسان أقرب إلى الشر منه للخير مستندا بذلك باقتران اسم الإنسان في القرآن بأوصاف قبيحة مثل ظلوم، غرور، كفّار، جهول و أثيم، "الإنسان في نشأته كالغصن الرطب، فهو مستقيم لدن بطبعه، لكن أهواء التربية تميل به إلى يمين الخير أو شمال الشر، فإذا شبّ يبس وبقي على ميوله مادام حيّا".

التربية ملكة تحصل بالتعليم والتمرين والقدوة والاقتباس، فأهم أصولها وجود المربين وأهم فروعها وجود الدين، ملكة التربية هذه بعد حصولها إن كانت شرا تضافرت مع النفس ووليها الشيطان الخنّاس فرسخت، وإن كانت خيرا تبقى مقلقلة كالسفينة في بحر الأهواء، لا يرسو بها إلا فرعها الديني في السر والعلانية، أو الوازع السياسي عند يقين العقاب.

الاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن وهو مفسد للدين في أهم قسميه أي الأخلاق، وأما العبادات منه فلا يمسّها لأنها تلائمه في الأكثر، لذلك تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجردة صارت عادات فلا تفيد في تطهير النفوس شيئا، ولا تنهي عن فحشاء ولا منكر لفقد الأخلاق فيها تبعا لفقده في النفوس الني ألفت أن تتلجأ وتتلوى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يستغرب في الأسير الأليف تلك الحال، أي الرياء، أن يستعمله أيضا مع ربه ومع أبيه وأمه، ومع قومه وجنسه، حتى مع نفسه.

في ظل العدالة والحرية يعيش الإنسان نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله، إن طعم تلذذ، وإن تلهى تروّح وتريّض لأنه هكذا رأى أبويه وأقرباءه، هكذا يرى قومه الذين يعيش بينهم، أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملا خامدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب، وكل مستبد (بفتح الباء) يشعر بآلام الأسر والاستبداد إن كان من العوام أو الخواص، فالعوام يسيئون فهم سبب الشقاء، ويعزونه للقضاء والقدر كقولهم: الدنيا سجن المؤمن، المؤمن مصاب، إذا أحب الله عبدا ابتلاه، إلى آخر هذه المثبطات وينسون حديث "إن الله يكره العبد البطال". أما الخواص فبلاهة التفكير وما لحقه من سوء تدبير يعميهم عن إدراك سبب الشقاء بالعقل والعدل.

يعتبر الكواكبي أن "التربية علم وعمل"، وليس من شأن الأمم المملوكة شؤونها، والمستلبة الإرادة أن يوجد فيها من يعلم التربية ولا من يعلّمها، و الأسير بعيد عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعبر، وقصر السمع على الفوائد والحكم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشئون، ورعاية التوفير في الوقت والمال، والاندفاع بالكلية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحب الوطن، لحل العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، لاحتقار الحياة. إلى غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية.

فالاستبداد يزلزل التربية المنزلية ويدفع عبيد السلطة أو الأسراء نحو ملذات تافهة كلذة الطعام حيث "يجعلون بطونهم مقابر للحيوانات" إن تيسرت أو "مزابل للنباتات"، وكلذة الرعشة "باستفراغ" الشهوة وبرميهم بالتكاثر الأعمى لتصبح أولادهم في عهد الاستبداد سلاسل من حديد يربطون بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق.
إن للتربية ثلاثة أقانيم، تربية العقل وتربية الجسم وتربية النفس. أما تربية العقل فهي تربيته على التمييز، ثم على حسن التفهم والإقناع، ثم على تقوية الهمّة و العزيمة، ثم على التمرين والتعويد، ثم على حسن القدوة والمثال، ثم على المواظبة والإتقان، ثم على التوسط والاعتدال. أما تربية الجسم فتقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمل المشاق، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغداء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة وفي الراحة، وأما تربية النفس فتقتضي معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه.. إن التربية هي ضالة الأمم وفقدها هو المصيبة العظمى.

الاستبداد والترقي
يقول الكواكبي ما معناه: "الحركة سنة الكون، هناك حركتان، حركة حيوية نحو الأمام وهذا ما يدعى الترقي، وحركة لا حيوية نحو الموت والهبوط والإنكسار، فالحياة والموت حقّان طبيعيان. والترقي أي الحركة الحيوية تصيب الأفراد والأمم سواء بسواء، وهي على أنواع ستة: أولا، الترقي في الجسم صحة وتلذذا، وثانيا الترقي في القوة بالعلم والمال، وثالثا الترقي في النفس بالخصال والمفاخر، ورابعا الترقي بالعائلة استئناسا وتعاونا، وخامسا الترقي بالعشيرة تناصرا عند الطوارىء، وسادسا الترقي بالإنسانية وهذا منتهى الترقي". هذه الترقيات الست لا يزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانع غالب يسلب إرادته، وهذا المانع، إما القدر المحتوم المسمّى عند البعض العجز الطبيعي (لا يمكن حدوث ترقي مثلا في الصحراء أو انبعاث حضارة في القطب الجنوبي، وهذا ما يشير إليه أيضا "ول ديورنت" في قصة الحضارة عن تأثير العوامل الجغرافية والطبيعية في نشوء الحضارات)، أما المانع الآخر لغياب الترقي هو الاستبداد المشئوم الذي يقلب السير في الأمة من الترقي إلى الإنحطاط، من التقدم إلى التأخر، من النماء إلى الفناء، حتى تبلغ الأمة حطّة العجماوات (أي انحطاط البهائم) فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية، وعندها يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة فلا ينفكّ عنها حتى تموت ويموت هو بموتها.

يسترسل بعد ذلك في بعض النصح والنقد للأمة التي هو منها وتكاد تكون مجموعة وصايا تلامس في جوهرها كل فضيلة وحق وخير للأمة فيقول:
- يا قوم: لستم بأحياء عاملين ولا أموات مستريحين، بل أنتم بين بين، في برزخ يسمّى التنبت، ويصح تشبيهه بالنوم، إني أرى أشباح أناس يشبهون ذوي الحياة وهم في الحقيقة موتى لا يشعرون، بل هم موتى لأنهم لا يشعرون.
- يا قوم: هداكم الله، إلى متى هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، ونمو كريم، أفلا تنظرون؟.
- يا قوم: وقّاكم الله من الشر، أنتم بعيدون عن مقاصد الإبداع وشرف القدرة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص على كل عتيق كأنكم خلقتم للماضي لا للحاضر.
- يا قوم: عافاكم الله، ما هذا النوم، وإلى متى هذا التقلب على فراش البأس ووسادة اليأس؟ انتم مفتحة عيونكم لكنكم نياما، لكم أبصار ولكنكم لا تنظرون.
- يا قوم: قاتل الله الغباوة، فإنها تملأ القلوب رعبا من لا شيء، وخوفا من كل شيء، تفعم الرؤوس تشويشا وسخافة، فما بالكم يا أحلاس النساء في الذل تخافون أن تصيروا جلاّس الرجال في السجون؟. (أحلاس النساء في الذل: الملازمون لهن في المذلة).
- يا قوم: إعيذكم بالله من فساد الرأي، وضياع الحزم، وفقد الثقة بالنفس، وترك الإرادة للغير....
- يا قوم: شفاكم الله، قد ينفع اليوم الإنذار واللوم، وأما غدا إذا حلّ القضاء، فلا يبقى لكم غير الندب والبكاء، فإلى متى هذا التخادع والتخاذل؟، وإلى متى هذا التواني والتدابر؟، وإلى متى هذا الإهمال؟.
- يا قوم رحمكم الله، ما هذا الحرص على حياة تعيسة دنيئة لا تملكونها ساعة؟، ما هذا الحرص على الراحة الموهومة وحياتكم كلها تعب ونصب؟، هل لكم في هذا الصبر فخر أو لكم عليه أجر؟، كلا والله ساء ما توهمون، ليس لكم إلا القهر في الحياة وقبيح الذكر بعد الممات.
- يا قوم: حماكم الله، قد جاءكم المستعمرون من كل حدب ينسلون، فإن وجودوكم إيقاظا عاملوكم كما يتعامل الجيران ويتجامل الجيران، وإن وجدوكم رقودا لا تشعرون، سلبوا أموالكم، وزاحموكم على أرضكم، وتحيّلوا على تذليلكم، وأوثقوا ربطكم، واتخذوكم أنعاما.
- يا قوم: سامحكم الله، لا تظلموا الأقدار وخافوا غيرة المنعم الجبّار، ألم يخلقكم أكفاء أحرارا طلقاء لا يثقلكم غير النور والنسيم، فأبيتم إلا أن تحملوا على عواتقكم ظلم الضعفاء وقهر الأقوياء، لو شاء كبيركم أن يحمّل صغيركم كرة الأرض لحنى له ظهره، ولو شاء أن يركبه لطأطأ له رأسه.
- يا قوم: رفع الله عنكم المكروه، ما هذا التفاوت بين أفرادكم وقد خلقكم ربكم أكفاء في البنية، أكفاء في القوة، أكفاء في الطبيعة، أكفاء في الحاجات، لا يفضل بعضكم بين بعض إلا بالفضيلة؟، لا ربوبية بينكم ولا عبودية، "والله ليس بين كبيركم وصغيركم غير برزخ من الوهم".
- يا قوم: جعلكم الله من المهتدين، كان أجدادكم لا ينحنون إلا ركوعا لله، وأنتم تسجدون لتقبيل أرجل المنعمين ولو بلقمة مغموسة بدم الإخوان، أجدادكم ينامون في قبورهم مستوين أعزاء، وأنتم أحياء معوجة رقابكم أذلاء.
- يا قوم: ألهمكم الله الرشد، متى تستقيم قاماتكم، وترتفع من الأرض إلى السماء أنظاركم وتميل إلى التعالي نفوسكم؟
- يا قوم: أبعد الله عنكم المصائب وبصّرك بالعواقب. إن كانت المظالم غلّت أيديكم، وضيقت أنفاسكم، حتى صغرت نفوسكم، هانت عليكم هذه الحياة، وأصبحت لا تساوي عندكم الجد والجهد وأمسيتم لا تبالون أتعيشون أو تموتون، فهلا أخبرتموني لماذا تحكّمون فيكم الظالمين حتى في الموت؟ أليس لكم الخيار أن تموتوا كما تشاءون و لا كما يشاء الظالمون؟ هل سلب الاستبداد إرادتكم حتى في الموت؟.
يا قوم: أناشدكم الله، ألا أقول حقا إذا قلت أنكم لا تحبون الموت؟.. فالهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، و "لو كبرت نفوسكم لتفاخرتم بتزيين صدوركم بورد الجروح لا بوسامات الظالمين".
- يا قوم، وأعني منكم المسلمين، إن جرثومة دائنا هي خروج ديننا عن كونه دين الفطرة والحكمة، دين النظام والنشاط، دين القرآن الصريح البيان، إلى صيغة أنّا جعلناه دين الخيال والخبال، دين الخلل والتشويش، دين البدع والتشديد، دين الإجهاد... وهكذا أصبحنا واعتقادنا مشوش، وفكرنا مشوش، وسياستنا مشوشة، ومعيشتنا مشوشة. فأين منا والحالة هذه الحياة الفكرية، الحياة العلمية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة السياسية؟.
- يا قوم: وأعني منكم الناطقين بالضاد، من غير المسلمين، أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين. دعوا عقلاؤنا يقولون لمثيري الشحناء من الأعاجم والأجانب: دعونا يا هؤلاء نحن ندبّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى بالضراء، ونتساوى في السراء، "دعونا ندبّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط". دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي، فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحي طلقاء أعزاء.
- رعاك الله يا شرق، وقاتل الله الاستبداد، بل لعن الله الاستبداد، المانع للترقي في الحياة، المنحط بالأمم إلى أسفل الدركات، ألا بعدا للظالمين.
يلتفت الكواكبي إلى الشباب – أمل الأمة – يبيّن لهم عظمة الأمة وما كانت عليه وما حالها اليوم، ويستنهض الهمم والعزائم، ويزيل غمّة الاستبداد وكربة الاستعباد حيث يقول في ذلك: " إن الأمر مقدور ولعله ميسور، ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد وأن يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات وهي:
- ديني ما أظهر لا ما أخفي.
-أكون حيث يكون الحق ولا أبالي.
- أنا حر وسأموت حرا.
- أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي.
- أنا إنسان الجد والاستقبال لا إنسان الماضي والحكايات.
- نفسي ومنفعتي قبل كل شيء.
- الحياة كلها تعب لذيذ.
- الوقت غال عزيز.
- الشرف في العلم فقط.
- أخاف الله لا سواه.

يصف الكواكبي المستقل الحر في زمن الترقي وانكسار الاستبداد فيقول: "قد بلغ الترقي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأن يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إن كل فرد يعيش كأنه خالد بقومه ووطنه، وكأنه أمين على كل مطلب، فلا هو يكلف الحكومة شططا ولا هي تهمله استحقارا".

كما ويصف الأسير في زمن الانحطاط والاستبداد فيقول: "أما الأسير فلا يملك ولا نفسه، وغير أمين حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظره على المستبد أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوذ بالله، وإذا مرّ من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: "حمايتك يا رب إن هذه الدار لبئس الدار، هي كالمجزرة كل من فيها إما ذابح أو مذبوح. إن هذه الدار كالكنيف لا يدخله إلا المضطر".

ينهي الكواكبي مقاله عن الترقي فيقول: وأنفع ما بلغه الترقي في البشر هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدا متينا في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كل فساد، وبجعلهم ألآّ قوة ولا نفوذ فوق قوة الشرع، والشرع هو حبل الله المتين. وبجعلهم قوة التشريع في يد الأمة، والأمة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطان والصعلوك على السواء. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدي حدود وظائفهم، وبجعلهم الأمة يقظة على مراقبة سير حكومتها.
 
الاستبداد والتخلص منه
يعيد الكواكبي صياغة تعريف الاستبداد بقوله: "هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم".
يقدم بعض التعاريف ذات الصلة قبل أن يبحث في كيفية التخلص من الاستبداد:
- الأمة أي الشعب: هي جمع بينهم روابط دين أو جنس أو لغة، ووطن، وحقوق مشتركة، وجامعة سياسية اختيارية، لكل فرد حق إشهار رأيه فيها توفيقا للقاعدة "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
- الحكومة: هي وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية.
- الحقوق العمومية: هي حقوق جميع الأمم وتضاف للملوك مجازا، هي جميع الحقوق التي يحق لكل فرد من الأمة أن يتمتع بها وأن يطمئن عليها.
- التساوي في الحقوق: أن تكون الحقوق محفوظة للجميع على التساوي والشيوع.
- الحقوق الشخصية: أفراد الأمة أحرار في الفكر مطلقا، وفي الفعل ما لم يخالف القانون الاجتماعي.

ثم يستفيض في تحليل آلية عمل الحكومة والوظائف ودورها وتوزيع المسئوليات فيها ويؤكد على ضرورة مراقبة دور الحكومة "بأن تنيب الأمة عنها وكلاء لهم حق الاطلاع على كل شيء، وتوجيه المسئولية على أي كان". ويؤكد على أن سلطة الحكومة منحصرة في القانون إلا في ظروف مخصوصة مؤقتة، ويشير إلى أن العدل ليس ما تراه الحكومة بل ما يراه القضاة المصون وجدانهم من كل مؤثر غير الشرع والحق، ومن كل ضغط حتى ضغط الرأي العام. ويشير أن من أدوار الحكومة دور حفظ الأمن العام وهي مكلفة بحراسة الفرد مقيما ومسافرا حتى من بعض طوارىء الطبيعة بالحيلولة لا بالمجازاة والتعويض.

 يوضّح الكواكبي دور الحكومة في حفظ الدين والآداب فيقول: إن دور الحكومة يقتصر في حفظ الجامعات الكبرى كالدين والجنسية واللغة والعادات والآداب العمومية باستعمال الحكمة ما أغنت عن الزجر.

أما القانون في رأي الكواكبي فهو أحكام منتزعة من روابط الناس بعضهم ببعض ويضعه جمع منتخب من قبل الكافة ليكونوا عارفين حتما بحاجات قومهم وما يلائم طبائع ومواقع ومصالح الأكثرية من الأفراد، كما ويجب أن تكون النصوص خالية من الإبهام والتعقيد وحكمها شامل كل الطبقات، ولها سلطان نافذ قاهر مصون من مؤثرات الأغراض والشفاعة والشفقة.

يؤكد الكواكبي على فصل السلطات حيث يقول: " لا إتقان إلا بالاختصاص أي أن تختص كل سلطة بفرعها دون التعدي على سلطة أخرى أو الجمع بين أكثر من سلطة.
يعود ويؤكد على التعليم والتعلم وتوسيع المعرفة بجعل التعليم والتعلم حرا مطلقا، كما ويؤكد على العمران والاعتدال المتناسب مع الثروات (ما أقرب هذا الكلام من يومنا هذا حيث التركيز في الدول المتقدمة على ثلاث: التعليم والصحة والسكن).

يقول في رفع الاستبداد: "إن نوال الحرية ورفع الاستبداد رفعا لا يترك مجالا لعودته من وظيفة عقلاء الأمة وسراتها !؟"، (أتذكر بيت شعر للشاعر الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم.. ولا سراة إذا جهّالهم سادوا).

يضع الكواكبي لرفع الاستبداد ثلاث أسس لابد من الأخذ بها وملاحظتها بدقة وتعمق وهي:
1-الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية.
2-الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما باللين والتدرج.
3- يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل الاستبداد.

خلاصة
يلزم أولا تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية السياسية المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين بل عشرات السنين حتى ينضج تماما، وحتى يحصل ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمني في الطبقات السفلى. والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذّر الشديد والتنّكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبد ويتكالب، و حينئذ قد تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البلاد (وكأن الكوكبي عاش يومنا هذا قبل أن يأتي ورأى ما حذّر منه قد حدث).

وخاتمة الكتاب بشرى: "وأني أختم كتابي هذا بخاتمة بشرى، وذلك أن بواسق العلم وما بلغ إليه، تدل على أن يوم الله قريب. ذلك اليوم الذي يقل فيه التفاوت في العلم وما يفيده من القوة، وعندئذ تتكافأ القوات بين البشر، فتنحل السلطة، ويرتفع التغالب، فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشرا لا شعوبا، وشركات لا دولا. وحينئذ يعلمون ما معنى الحياة الطيبة". (وكأن الكواكبي بشّر بنظام عولمة ذي أنامل من حرير لا مخالب من حديد كالذي ينهش بنا اليوم).

خاتمة المعد:
حكاية في كتاب أنتوني دوملّو "أغنية الطائر"، قد تعبّر أصدق تعبير عمّا آلت إليه الحال، وما يجول في كل بال: "أصبح ناصر الدين مستشار الملك الأكبر، وبينما يمشي في قصر الملك لمح صقرا ملكيا على شرفة القصر، لم ير ناصر الدين مثل هذا الطير من قبل، فما يعرفه من طيور كالحمائم والعصافير و الكنار لا تشبهه في شيء، فهذا الطائر بجناحين كبيرين ومخالب حادة ومنقار قوي، فما كان من المستشار إلا أن طلب من زبانيته الإمساك بالطائر بالطرق المعتادة لديه، وقام بقص جناحيه وتقليم مخالبه وقص منقاره، وقال له: الآن أصبحت طائرا مهذبا".

هل هذه خاتمة كل "طائر" حر في زمن الاستبداد؟
لا، بالطبع، فلابد للاستبداد، يوما، من أن ينجلي..
 هذا ما يخبرنا عنه الماضي والحاضر....

ملخص بتصرف عن كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي


إعداد: د. غانم الجمالي، ("طبائع الاستبداد": حين يعيش الناس بشرا لا شعوبا)

خاص: مرصد نساء سورية

شارك المقال مع أصدقاءك..
Top