مشاركة المرأة في الحياة العامة في سورية منذ الاستقلال 1945 وحتى 1975، لنبيلة الرزاز

نظرا للأهمية التاريخية للإضاءات المنشورة في هذا كتاب: "مشاركة المرأة في الحياة العامة في سورية منذ الاستقلال 1945 وحتى 1975"، لمؤلفته الكاتبة نبيلة الرزاز، والصادر عن وزارة الثقافة عام 1975، والذي كانت الأمم المتحدة قد اعتبرته عاما للمرأة، فإننا سننشر مقتطفات مطولة منه على حلقات.

الإناث في مجال التعليم في القطر العربي السوري
في السنة الأولى للاستقلال 1945
نقطة التحول في تاريخ التربية في القطر العربي السوري:
انتهت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت الهدنة في الثامن من أيار سنة 1945، وتمنت سورية لو تستطيع الاحتفال بها فعلا، فقد عانى هذا القطر الصغير من الحرب الكثير، الجوع، وغلاء المعيشة والافتقار إلى المواد الغذائية، والجيشو الأجنبية تعيش فيه فتمتص خيراته وتضطهد أبناءه، كل هذا وليس للقطر الصغير ناقة في الحرب ولا جمل، واحتملت سورية الكثير منتظرة نهاية الحرب مقدرة ظروفها مؤجلة المطالبة بتحقيق ما اعترفت به فرنسا من استقلال سورية سنة 1941 حتى نهاية الحرب. فكان لها يوم الهدنة أملا كبيرا إذ قد يكون سبيلا للاستقرار في العالم، ولوصولها هي بالذات إلى حقها الطبيعي من الحية.

كتاب نبيلة الرزازولكن يوم الهدنة الذي كان سلاما لدول كبرى في العالم؛ لم يكن إلا نوعا من العنف جديدا، ينصب على رؤوس السوريين، الذين انتظروا سنوات حارة من الحرب، بهدوء صامت، قانعين أن هؤلا الذين طحنتهم الحرب، فعرفوا ما تحمله من دمار وتشريد، لن يخرجوا منها، إلا وهم مؤمنون بأن الشعوب على اختلافها، لها حق الحياة الحرة، كما لهم هم، إلا أن يوم السلم هذا تميز بأن كانت عجلات دبابات المستعمر، تدوس بسلاسلها الحديدثة الثقيلة شوارع المدن السورية، ومن ورائها السيارات العسكرية، تحمل الجنود الذين يطلقون نيران بنادقهم في الفضاء؛ إرهابا واستفزازاً، كأنما تريد أن تقول: إن نهاية الحرب تعني حرية لأناس، واستمرارا لظلم آخرين. فالسلام ليس من حق البشر كلهم؛ هو للأقوياء فقط، أما الضعفاء فعليهم الاستسلام، وأن يتعلموا كيف يطأطئون الرؤوس أمام هذه الطلقات النارية، وكيف يفسحون المجال لسلاسل الدبابات، لتأخذ مكانها في شوارع المدن التي لا ذنب لها، فتجبر أبناءها على السير محتمين منها بالجدران وزوايا الحارات، ليس لهم من السلم إلا سلم المذلة التي لم ترض بها سورية.

وترافقت الاستفزازات بمذكرة من المفوض الفرنسي إلى وزارة الخارجية السورية، يشار فيها إلى أن فرانسا تقبل بأن يصبح جيش الشرق (وهو الذي يتألف من مجندين سوريين في الجيش الفرنسي) سوريا وطنيا، على أن يظل هذا الجيش تحت القيادة العليا، وكان الرفض جواب سورية، مع الإصرار على تسليمها الجيش، وعمت الاستفزازات المصحوبة بالحقد أرجاء سورية، إلا أن الشعب الذي طال انتظاره، لم يعد قادرا على الاحتمال، ولم يجد حلا لمشكلته إلا بالحديد والنار والإصرار، فتنادى لتشكيل فرق شعبية تتدرب على المقاومة، فما لم ينل بالسلم، ينال بالدماء تسفك على أرض الوطن، فتخصبها لتنبت جيلا حرا قويا. وأغلقت المدارس، وتطوع الكثير من طلابها الكبار في الفرق الشعبية للمقاومة، وانتظر الصغار في دورهم، يتتبعون أصوات الطلقات هنا وهناك، ويطلون من النوافذ، بعيون يطل منها الخوف إذ يرون الجنود الغرباء يملأون الشوارع، ببنادقهم المصوبة نحو القلوب الصغيرة الطاهرة التي لا تطلب إلى حياة لا رعب فيها ولا خوف. وبلغت الأزمة أوجها حين ضرب المجلس النيابي ومزقمن فيه من حرس أشلاء، وكانت قد توالت حوادث الاعتداء على سائر المدن السورية، ولم تنفرج الأزمة إلا بعد اشتداد. ويقول الديكتوران رودريك ماتيوز ومتى عقراوي في كتابهما "التربية في الشرق الاوسط":
"وكان المستشار الفرنسي لوزارة المعارف ذا نفوذ كبير، وسلطة واسعة في توجيه قرارات الوزارة الخاصة بالشؤون التعليمية، وكانت بعثات الطلبة للدراسة في الخارج كلها ترسل إلى فرانسا دون سواها من البلدان، وكانت الوظائف الهامة في الإدارة والتعليم، كلها في يد من تلقى علومه من السوريين في معاهد فرنسية. أما وقد أعلن استقلال سورية سنة 1941 وأجريت الانتخابات، وجاءت نتائجها فوزا مبينا للحركة القومية، فقد كان من الطبيعي، ان توجه الحكومة الجديدة سياسة التعليم توجيها قوميا بعيدا عن النفوذ الفرنسي، معتزمة قبل كل شيء، إنشاء طراز من التربية سوري عربي. وتوصلا لهذا الغرض، فكرت الحكومة في الانتفاع بخدمات المربي العربي الشهري ساطع الحصري.. وبين شهري مارس ويوليه من سنة 1941 أصدر 16 تقريرا، طبعت كلها في مجلد واحد، وكانت هذه التقارير أساسا لنظم التعليم الجديدة في سورية -مع تغييرات طفيفة- ومنها استلهمت القوانين واللوائح المعمول بها الآن. وقد كانت هذه السياسات الجديدة انحرافا شديدا عن السياسة الفرنسية التي كانت متبعة إلى ذلك الحين، فأثارت أشد الخلافات، وتسبب عنها نزاع مسلح دام إلى سنة 1945.

وكان من أسباب هذا لاخلاف، قانون المعارف الجديد رقم (121) الخاص بتنظيم التعليم العام والصادر في ديسمبر سنة 1944، ومما جاء فيه؛ النص على عدم جواز تدريس لغة أجنبية في المدارس الأولية..

وقد أدى الصدام الفرنسي السوري الذي وقع في مايو سنة 1945 حينما ضرب الفرنسيون دمشق بالقنابل، إلى مقاطعة الأهالي للمدارس الفرنسية، فاضطرت إلى غلق أبوابها، ولما أوشكت المدارس أن تفتح أبوابها للسنة المكتبية 1945/1946 قيل لأصحاب المدارس الفرنسية، أنه يخول لهم العودة للعمل في مدارسهم، بشرط تسجيل هذه المدارس في وزارة المعارف، الخضوع لتفتيش الوزارة، واتباع مناهجها في تدريس اللغة العربية والتاريخ العربي والجغرافية، والعمل بموجب شروط أخرى معينة، وقد عجزت كل المدارس الفرنسية تقريبا عن القيام بهذه الشروط، فأغلقت، وتحولت بعض المدارس التي كانت مقيدة بوصفها فرنسية إلى وطنية، واختير لها مدير سوري، ورخص لها بالبقاء، وهذه المدارس كان يديرها رهاب سوريون وراهبات سوريات" (1)

ويقول الأستاذ ساطع الحصري "ومما يجب أن يلاحظ أن السنة المذكورة سنة 1944 كانت مملوءة بالحوادث الجسام في سياسة البلاد بوجه عام. وسياسة المعارف بوجه خاص. لأن الفرنسيين طالبوا الحكومة السورية بعقد معاهدة ثقافية تحفظ لمعاهدهم وشهاداتهم سلسلة طويلة من الامتيازات، ثم حاولوا أن يفرضوا عليها مطاليبهم هذه، مع مطاليبهم بالاقتصادية والعسكرية بقوة القنابل والمدافع والرشاشات، وذلك أ؛دث أوضاعا جديدة كحانت بعيدة الأُثر في حياة معارف البلاد. إن تاريخ المعارف السورية خلال السنة المذكورة، أصبح من التواريخ الممتعة جدا بهذا الاعتبار" (2).

ويبدو حقا أن سنة 1944 كانت نقطة تحول هامة في تاريخ التربية في القطر العربي السوري. ويجدر بنا أن نذكر هنا بعض المبادئ والأسس الصريحة التي وضعها قانون المعارف (121) والمتعلقة بالمدارس الأجنبية، لما كان لهذه المدارس من شأن في تعليم الإناث بشكل خاص في سورية والمتعلقة كذلك بتعليم اللغة الفرنسية.

منها: "جميع المدارس والمعاهد التعليمية الأهلية والأجنبية تابعة إلى مراقبة وزارة المعارف من جميع الوجوه؛ الصحية والتعليمية والأخلاقية".
- الشهادات التي تعطى من قبل المدارس الخاصة عن إتمام الدراسة فيها لا تعتبر ما لم يشترك طلابها في الامتحانات العامة التي تجريها وزارة المعارف، وينجحوا فيها.
- لا تدرس في المدارس الابتدائية لغة أجنبية، مع هذا يسوغ لوزارة المعارف أن تلحق بالمدارس الابتدائية في المدن الكبيرة التي تكثر فيها المعاملات التجارية، صفا إكماليا تدرس فيه لغة أجنبية، والاصول الحسابية، لمن يرغب من الأطفال الذين لا يدخلون في المدارس الثانوية بعد انتهائهم من الدراسة الابتدائية.
- إن تعليم لغة أجنبية إجباري في جميع صفوف المدارس المتوسطة والإعدادية، كما أن تعليم لغة أجنبية ثانية إجباري في الصفوف الإعدادية من المدارس الثانوية.

"ويظهر من هذه التفاصيل- كما يقول ساطع الحصري- أن قانون المعارف العام، قرر سياسة قومية صريحة، وقضى بذلك على جميع الامتيازات التي كانت تتمتع بها اللغة الفرنسية، والمعاهد الفرنسية، والشهادات الفرنسية" (3).

ويذكر الدكتوران ماتيوز وعقراوي أن "غلق المدارس الفرنسية كان سببا في مشكل خطير، كان على الحكومة مواجهته، فقد كان عدد الذين يتلقون العلم فيها في ذلك الحين 1944/1945 (19503) تلميذ، وفي الوقت الذي كان الإقبال فيه على التعليم يزداد بشدة، أصبح ألوف من الطلبة يخشون تعذر إيجاد المدارس الملائمة لهم، فلم يسع الحكومة إزاء هذه الحالة، إلا أن تتخذ إجراءات مشددة فأضافت إلى ميزانية التعليم ميزانية جديدة، وافتتحت ست مدارس ثانوية جديدة، و52 مدرسة أولية جديدة في طول البلاد و عرضها، فضلا عن إنشاء فصول وأقسام جديدة في الدارس الحالية، وشجعت الوزارة المدارس الاهلية على إنشاء فصول جديدة فيها، ومنحت إعانات مالية للمدارس الأهلية التي تنشأ. وكان طبيعيا أن تبذل أكثر هذه الجهود في المدن الكبرى التي كانت عامرة بالمدارس الفرنسية، وسرعان ما زاد عدد المقيدين في المدارس الثانوية الرسمية بمقدار (1930) تلميذ في المدن الكبرى الست -دمشق وحلب واللاذقية وحمص وحماه وطرطوس، وكذلك زاد عدد التلاميذ في المدارس الابتدائية الرسمية بمقدار (6718) في هذه المدن عدا طرطوس، وبلغت الزيادة في المدارس الأهلية حدا كبيرا، ففي دمشق وحدها زاد عدد المقيدين بالمدارس الابتدائية الاهلية 2458 تلميذ.. ونظرا للسرعة التي اضطرت ولاة الأمور إلى الالتجاء إليها لمواجهة هذه الحالة، لم يكن كل شيء في هذه المدارس الجديدة على ما يرام، ولكن الحكومة نجحت على كل حال في سد الفراغ الذي تركته المدارس الفرنسية" (4).

وما دامت سنة 1944 تعد سنة تحول هامة في تاريخ التربية في سورية، فلا بد لنا من معرفة واقع التربية في هذه السنة، وبخاصة بالنسبة للإناث، موضوع بحثنا.


(1)- الدكتوران رودريك ماتيوز ومتى عفراوي "التربية في الشرق الأوسط" ترجمة الدكتور أمير بقطر ص 421-422.
(2)- الأستاذ ساطع الحصري- تقارير عن أحوال المعارف في سورية خلال سنة 1945- ص122.
(3)- الأستاذ ساطع الحصري- تقارير عن أحوال المعارف في سورية سنة 1945- ص 124.
(4)- الدكتوران رودريك ماتيوز ومتى عفراوي "التربية في الشرق الأوسط" ترجمة الدكتور أمير بقطر ص 423.


*- يتبع....


من كتاب:
مشاركة المرأة في الحياة العامة في سورية منذ الاستقلال 1945 وحتى 1975،
تأليف: نبيلة الرزاز،
منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1975

إعداد: مرصد نساء سورية، (مشاركة المرأة في الحياة العامة في سورية منذ الاستقلال 1945 وحتى 1975، لنبيلة الرزاز)
خاص: مرصد نساء سورية

شارك المقال مع أصدقاءك..
Top